بعدسة حسّاسة تلتقط المشهد وتجوس في تفاصيله بدقة؛ ترصد تاريخاً وزمناً وحالات. تغوص العين بانتباه مسنودة بأوراقٍ وذاكرة؛ تتابع إيقاع التحول في المشهد العام دون أن تكون له الصدارة لئلا يكون تسجيلياً وحسب؛ وتسبر الحيوات التي تعبر بأثقالها أو بخفتها تصنع مكوثاً لا يريد أن يصبح عابراً، بل أثراً يطول تملّيه إنسانياً وجمالياً. بهذا التدبر، أحسب أن بدر السماري كتب روايتَه "ارتياب" (دار أثر للنشر والتوزيع، الدمام 2014). وأول ما يلفت في غلاف الرواية الأمامي والخلفي أن العنوان "ارتياب" جاء مشطوباً في منتصفه بخطينِ مائلين وكأنهما العلامة التي تزرع الشكّ في كل شيءٍ حتى في كلمة ال"ارتياب" نفسها بما يعني الارتداد إلى الداخل فحصاً واختباراً، وتجلية وإظهاراً، وإمعاناً في المعاودة؛ سؤالاً وكشفاً على النحو الذي سارت عليه الرواية منذ صفحتها الأولى حتى الأخيرة وهي لا تنفك تدور على هذه الكلمة وتمنحها أبعاداً تنشأ من تاريخ الشخصية وتلك الظلال المنعكسة في الوقائع الحياتية وجدل العلاقات في مدها وجزرها بتأثير قمر الارتياب ومنازله قرباً وبعداً وتماساً، وارتطاماً إيضاً. ينزع السماري شخصياته الرئيسية، وهي بعد في أوائل عشرينياتها، من حاضنتها الطبيعية التي نشأت فيها وسط البلاد في نجد، ويضعها في القلب من أكبر مظهر للتحولات بالمملكة؛ في المنطقة الشرقية خلال سبعينات القرن الماضي. على سكة التحوّل الجارية، يمضي أبطال "ارتياب" في إيقاعٍ يربط، كما قلنا بين العام والشخصي، فيجدل صورة تجد في التماسك بين صورة "البلدة" الآخذة في التحول وبين مصائر الشخصيات التي تنطوي على جروحها أو على عقدها فيما الزمن يعمل إما على طمر الجروح والتلاؤم معها وعلى حل العقد، وإما على إثخان تلك الجروح والتوسع فيها؛ وعلى زيادة العقد وإحكام التباسها. تقوم الرواية على شخصيتين رئيستين هما "ذيبان، ومبارك" إلى جوار شخصية ثالثة "ابن معتاز" التي تدخل في شبكة الأحداث مثلَ أغنية تلتهم الحياة والحياة أيضاً تلتهمها. تتوزع الشخصيتان الرئيستان مسرح الأحداث في حال من التقاطع والتحاجز والريبة والظنون. فهما قادمان من جُرح واحد. الأول من اليتم وظلم زوج الأم الذي هرب منه ومن المنطقة لا ليستأنف حياته ويداوي جرحه.. هرب هروب الذئب الجريح نائياً في عزلته.. وتوحشه الذي جعله يتخلى عن اسمه "متعب" ويلتحق باسم الذئب وصورته بعينين ذئبتين لا أحد يطمئن إليهما وتخلع الاستيحاش في نفس من تحتكان بصريا بهما. والثاني "مبارك" من العبودية التي أنهاها عهد الملك فيصل فطفق يبحث عن مسارٍ جديدٍ في حياته غير منحبسٍ في الرق ولا باحث عن قيدٍ جديد يسيره. نهض مبارك إلى حلمٍ لا يني ينجدد ويتطور على مراحل سني عمره التي لم ينغصها سوى حالة العداء التي جمعته بذيبان ولا يعرف أحدهما لماذا إلا الريبة؛ وإلا الخوف الهائم الذي لا يُعلَم مأتاه وإن كان ثاوياً في الطبقة العميقة من جرحهما الأول. عانق مبارك حلمه وجنّحَ به من عامل إطفائي في شركة النفط إلى مدير تنفيذي ومن كبار موظفيها. لا يدع الحواجز تعتقله ولا تبذر اليأس في قوادمه. البلدة تتحوّل ومعها يصعد قيميّاً وأخلاقيّاً ومجتمعيّاً؛ عينه على البلدة يتجذر فيها ويوغل في انتمائِه ماداً شبكة حلمه تحتضن صغار البلدة وكبارها؛ تعليماً وتدريباً وإكساباً لمعنى الحياة المتدفّق من الرياضة إلى الكتاب إلى شؤون السلامة إلى تدوين سيرتِه مثالاً للطموح والتجاوز. وهذا ما لم ينجزه ذيبان، أحاطَ به ارتيابه وسقط في فخاخه، بل استعذبَه ووهبَ حياتَه لترتيلة العزلة رغم زواجه مرتين وانفصاله في كل مرة. أثمر زواجه الأول ابنيه متعب الذي أطلق عليه "ولد إبليس" وفيصل الذي أطلق عليه "ولد أمّه"، أما زواجه الثاني الذي أتى بعد سنوات طويلة من التعلق والتماس مع "غزيّل" على نحو يذكر هذا التعلق دون امتداداته بمناخات رواية ماركيز الشهيرة "الحب في زمن الكوليرا" إلا أنه لم يستمر سوى بضعة أيّام عندما أرادت "غزيّل" نفض مجلس منزله من حاله القديمة الواقعة في الغبار والضوء الشحيح والمعُبّأ بصور وأخبار (...) الذي تراءى له أباً وقدوةً ونموذجاً، ولم ترَ فيه "غزيّل" إلا تاريخاً موجعاً يذكّر باعتقال زوجها الأول ومرضه ووفاته. يقسّم السماري الكتاب إلى قسمين (حواس مرتابة؛ متعب وأوراق الشجر). وفي القسم الثاني يتقصى مصائر شخصياته إلى نهاياتها المحتومة أو الملتبسة، على وقع شجرة السدرة في منزل الأب التي تتساقط أوراقها على مدار الرواية؛ قدراً ومصيراً، ولعلّ أجمل ما في هذا القسم توضّح شخصيّة الراوي تماماً "متعب بن ذيبان" الذي يشاكل شخصية الأب ويسعى إلى "الحقيقة" مفتشاً في الذاكرة والأوراق، لا ليكتب سيرة شأن مبارك ولكن ليكتب رواية تحفر في الشخصيّات تزيل الغبش والضباب؛ تصفيها حتى النواة الجاذبة تتفجر بارتيابها. وكأن السماري يدعو القارئ إلى مشغله الروائي يوقفه على حد الواقعة وحد الخيال بإغرائه الكاشف الذي يباطن الواقعة ويقشرها وصولاً إلى اللحم والدم؛ النسيج الحي الذي لا تكون الرواية إلا به، وأحسب أن كاتبنا أوفى غايته ورسم كياناً متكامل الأبعاد ينبئ عن التحول يطال المكان والإنسان وبشرطه الظرفي الذي لا يمكن لأحدنا أن يغادره إلا بتصالحه مع هذا الظرف.