أتى ليقول لمن بعده: "إن طريق الحرية طويل".. ربما أطول من عمر المناضل ذي العقود التسعة. استلهم "الماهاتما غاندي"، وأدرك أن صيحة "روزا باركس" لم يصل صداها إلى بقية المستعمرين البيض.. سبقه في نضاله كثر، ولكنهم قلة في عمر التاريخ.. سيرته تحكيه، غير أن الأهم هو استدعاء المبادئ والتضحية، ثم التسامح: أسس النضال لمن ضلوا الطريق فغرقوا في أوحال السياسة، ودماء البشر، والصراع على السلطة.. أعال "المشاغب" أسرته بعد وفاة والده.. لم يحصر تفكيره في قبيلته وهو ابن شيخها "المبجل"، بل استدعى أمته أولا، لتكون وجه أفريقيا، ويكون هو قلبها النابض.. بدأ النضال سلميا في "المجلس الأفريقي القومي"، ولم يخن مبادئه عندما دعا قومه إلى المعارضة المسلحة، لأن قتل الأبرياء المدنيين أصحاب الأرض والتاريخ؛ يعني أن الأمر تجاوز السلطة والفساد وتعدى التمييز إلى التحضير للإبادة.. لا ننسى أن أسلاف هؤلاء البيض هم من أبادوا الهنود الحمر هناك.. في أقصى الغرب. النضال له فلسفته، والسلاح ليس مبتدأ الأمر ومنتهاه، وإن كان الحق أبلجا.. العقل والقيم أقوى الأسلحة لو عرف المضطَهدون.. قرأ خصومه جيدا، وعى مراحل تاريخهم الحضاري.. السلاح يحمله الجاهل قبل العاقل، ولكن الصبر وعدم المساومة على الحق مبادئ لا يقوى على حملها إلا عظيم أفريقيا ومن على شاكلته.. لم يعرّ "مانديلا" خصومه العنصريين فحسب؛ بل نزع قشرة رقيقة أصابها العفن في جسم الحضارة الغربية.. انتصر للظالم والمظلوم معا.. ولكن "التسامح لا يعني نسيان الماضي"، بل استحضاره على الدوام من أجل العبرة.. دعا لحمل السلاح من أجل الأرض والإنسان، من أجل الكرامة والحق.. وهو الذي لم يحمل سلاحا قط في حياته! لأن القتل ليس غاية.. كل من نعتوا ب"المناضلين" يرددون ذات المبادئ، ولكن الإيمان بها وفهم المراد منها جعلا تلك المبادئ حكرا عليه.. النضال يكون من أجل الحياة، ولو كان الثمن الموت أو السجن.. وأرفع درجات النضال حقن الدماء.. فدم الإنسان، وثروات الأوطان مقدمة على كل ما حاك في الصدر من جبلة الثأر والانتقام. زنزانته التي يتردد على زيارتها أباطرة السياسة تستدعي الوقوف طويلا.. تستدعي الألم أكثر من الإعجاب، وإن لم يستطع الناس مغالبة الإعجاب! لأن الحق يفرض نفسه رغم أنف الظالمين.. وهو يفاوض من زنزانته، قاوم ذاكرة شبابه الذي عاشه بين جدران أربعة.. لم يتحسس يده الخاملة التي كانت تعشق "الملاكمة".. لم يصف الحسابات ويعد العدة لرقم مهول من السنوات قضاه في السجن ظلما.. كان يفكر في أمته، في شعبه.. في إنسان أفريقيا كي لا يظل رمزا للدونية في أعين الآخرين.. نحكم.. هذه أرضنا.. ونحن الأغلبية، دماؤكم أيها "البيض" حرام، لن نحاسبكم على جرائمكم، سنترككم للتاريخ، ولأنفسكم.. من أجل الحياة والعدالة نعفو عنكم عند المقدرة.. كيف يغير العظماء مسار التاريخ، وطبائع الشعوب! وعلى هامش سيرته ولأن في السياسة الكثير من المضحكات؛ وبعد أن ترجل "مانديلا" عن الحكم بسنوات؛ خرج شقي تكساس عام 2008، ليعلن دون خجل: أن عفوا قد صدر بحق "المبجل"! أي عفو هذا؟! لم يعد "مانديلا" ورفاقه في قوائم الإرهابيين! كأني ب"مانديلا" وهو يسمع الخبر يبتسم ابتسامته العفوية تلك التي تعكس راحة ضميره.. أرأيتم ما فعله "عظيم أفريقيا" بحق كل العنصريين؟ أرأيتم كيف عرى نضاله وعرت مبادئه ضمير الرجل الأبيض؟! نم قرير العين أيها "المبجل".