ما استغربت من شيء في زمن الهزائم العربية مثل دعوة بعض الزملاء الكتاب إلى العامية وقراءة (نشرات الأخبار) بها بالشاشات الرسمية والخاصة! أإلى هذه الدرجة بلغ بنا الأمر لندع (رمز هويتنا) ونتنادى إلى النزول لحضيض العامية؟ ماذا يبقى لنا بعدها؟ كيف سنفهم بعضنا؟ هل أمتنا بحاجة إلى هزائم جديدة وانكسارات أخرى؟ عندما بعث إلي الصديق الغيور الدكتور محمد الكثيري رسالة نصية يرشدني إلى قراءة المقال الأول الذي تصدى لهذه الدعوة بصحيفة "الوطن" للكاتب سامي الفليح.. بعنوان: (دعوة للعامية في نشرات الأخبار) والمنشور في الأول من أكتوبر 2012 بالعدد 4385، كدت لا أصدق حتى قرأت المقال.. ووجدت هذا الشك لدى غيري عندما كنت في حديث هاتفي في ذات اليوم مع الصديق الكاتب خالد السليمان حيث قال لي: لعل الكاتب يقصد (القنوات العامية)، ولكن مع الأسف لم يكن يخص هذه القنوات بل عمم هذه الدعوات على كافة الشاشات! مناط العجب والألم معاً أن مثل هذه الدعوة تصدر من مهبط القرآن، ومن موطن الضاد، ومن بلد نص نظامه الأساسي على أن لغته هي اللغة العربية. من هنا أتساءل: كيف يؤيد بعض كتابنا الكرام كالأستاذ إدريس الدريس مثل هذه الدعوة، وأبسط آثارها لو تمت - أننا لن نفهم بعضنا ليس كعرب وليس كسعوديين؟! لقد وجدت أن كثيرين ضد هذه الدعوة، بل وجدتهم مستغربين منها عندما كتبت بحسابي بتويتر (تغريدة) عن هذه الدعوة فتوالت تغريداتهم رافضة بقوة هذه الدعوة، بل كانوا مستهجنين طرحها! أتساءل مرة أخرى – بحرقة - : ماذا يبقي لنا عندما نتخلى عن (لغتنا) حتى في نشرات أخبارنا بعد أن تخلينا عنها بأسواقنا وفنادقنا وشركاتنا، ويكاد العربي – بديار العرب – يكون غريب الوجه واليد واللسان، كما قال (المتنبي) قبل ألف سنة؟، بل، يا ترى لو كنت أيها الشاعر حافظ إبراهيم ما زلت بيننا وأنت ناديت وصدعت بغيرتك على لغتك التي وسعت كتاب الله لفظاً وغاية.. ماذا لو كنت بيننا وتقرأ – في بلاد الضاد – الدعوة جهاراً نهاراً على "أنهار" الصحف – إلى العامية وفي المنابر الإعلامية الرسمية؟! ربما الحسنة الوحيدة لهذه الدعوة أننا لن نفهم أخبار مآسي أمتنا العربية عندما تقرأ الأخبار بالعامية، لكن السؤال الذي يقف كرمح وينهض كجرح: هل ستنتهي هذه المآسي عندما لا نفهمها؟.. إنها ستزداد عندما يتم مزيد من الجهل بها..! إنني لا أرتاب بغيرة هؤلاء الكتاب، وليس أدل من غيرتهم على لغتهم وقناعتهم أن القراء لن يفهموهم إلا إذا كتبوا بلسان عربي مبين.. لذا كتبوا وتنادوا لهذه الدعوة وبلسان عربي مبين، فلماذا لم يدعوا إليها باللهجة العامية؟! أتذكر – في هذا السياق - قصة مؤلمة وطريفة لكنها تشي بالغيرة على الضاد.. حصلت هذه القصة بدار شيخنا العلامة حمد الجاسر – عليه رحمة الله – وقد حضرتها ذات مغرب مع عدد من مريدي وتلامذة الشيخ.. لقد جاءه حفيده ليودعه قائلاً: (باي باي بابا حمد) فناداه الشيخ حمد موجها له بأن يقول: (في أمان الله أو مع السلامة)، فكان رد هذا الحفيد: (أوكي بابا) فضحك الشيخ وضحكنا ولكنه ضحك أقرب إلى الألم.. ثم علق الشيخ بحسرة: "أفي دارة العرب يتم امتهان لغة العرب؟"، ترى ماذا لو كان (علامة الجزيرة) الذي ناضل من أجلها عبر المجامع والجمعيات والمجلدات حياً الآن ورأى أن بعض المدارس الأهلية على سمع ومرأى وزارة التربية والتعليم – قضت على اللغة العربية وأصبحت تدرس مناهجها باللغة الإنجليزية وطلابها عرب مسلمون سعوديون، بل إن بعضها تعطي (شهادة الثانوية) باللغة الإنجليزية دون أي حرف عربي فيها! أختم بقصة مؤسفة حصلت في مكةالمكرمة التي تنزلت بين جنباتها آيات المثاني. لقد اتصلت ذات رمضان بأحد الفنادق وإذا بموظف (السنترال) يرد على تحيتي ب(ول كم) واستمر يتحدث باللغة الإنجليزية فاعترضت عليه وقلت: لم لا تتحدث معي بالعربية وأنا سعودي عربي ومسلم وأنت كذلك بجوار الكعبة وكلانا في مهد العرب؟ فكان رده أقبح من حديثه الأول حيث قال: (هذا هو السستم)! ومع الأسف لايزال تجاهل لغتنا قائماً بكثير من الفنادق والشركات، حيث الحديث والفواتير والتعامل باللغة الإنجليزية رغم كل التعليمات والتعاميم.. ولك الله يا لغتنا. الله.. ألهذه الدرجة بلغ الهوان بنا وبرمز هويتنا؟ إن السؤال الأخير والحزين كدمعة: ماذا بقي لنا إذا فقدنا لغتنا: حافظة تاريخنا، وواسطة تفاهمنا، وبقية هويتنا ورمز شخصيتنا؟ إن كل الأمم المتقدمة تعتز بلغتها وتحافظ عليها، وتحفظ لها مكانتها، واقرؤوا دولة كفرنسا كيف تعتز بلغتها وتعاقب من يهملها ولا يتحدث بها. لك الله يا أمتي، ولك الله يا لغتي! حمد عبدالله القاضي عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية