اللغة الأم هي ذاكرة وتاريخ وتراث وثقافة وهوية الأمة التي تنطقها. دونها تفقد الأمة ثقافتها وذاكرتها وتراثها وتخسر هويتها. ونحن نحاول جهدنا الاطلاع على المجتمع السويدي المتمدن مستخدمين المقارنة حينا والمقاربة حينا آخر، علينا دائما التذكر أن الدنيا وما فيها يصعب علينا فهمها دون إثارة أسئلة محددة تبدأ بكيف ولماذا حصل هذا الأمر. والعرب قبل أي أمة أخرى عليهم التزام قومي وديني للمحافظة على لغتهم. قوميا، العربية، لغتهم الأم، هي ذاكرتهم وتاريخهم وتراثهم وهويتهم. ودينيا، كتابهم السماوي نزل بهذه اللغة، وهذه ميزة إضافية تحتم عليهم التشبث بها. أي دولة عربية تخسر هذه اللغة معناه أنها خسرت كيانها. وقبل أن أدخل في خضم الموضوع أود التعريج على ما تفعله السويد للمحافظة على لغتها القومية، التي لا دور سماويا لها كما للعرب المسلمين الذين يؤمنون بأن الله من خلال ملكه كلم نبيهم بلغة الضاد. الدراسة بالمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية كلها باللغة السويدية. نعم، هناك مناهج متطورة لتعلم لغات أجنبية، ولا سيما الإنجليزية، إلا أن السويدية لها الأولوية المطلقة. هذا من جانب. من جانب آخر، فإن الأجنبي المقيم في السويد لا يفرض لغته ومناهجه الدراسية على المجتمع. على العكس تماما. إن أراد الإقامة في السويد، عليه تعلم اللغة السويدية وإرسال أبنائه وبناته إلى مدارس واسطة التدريس والتعبير فيها هي اللغة الأم، أي السويدية. كل هذا، والسويديون لم يحظوا بكتاب سماوي بلغتهم. لنقارب الآن ما يحدث في السويد بخصوص اللغة الأم وما يحدث في بعض دول الخليج العربي، التي أزور بعضها باستمرار (بالطبع لم أحظ حتى الآن بشرف زيارة بلد الحرمين، وهذا حلم آمل أن يمكنني الله من تحقيقه في القريب العاجل). كنت أمر مرور الكرام على التقارير التي تتحدث عن تهميش اللغة العربية في بعض هذه الدول، لأنني كنت أشك في نزاهتها. ولكن في زياراتي الأخيرة أصبحت على يقين بأن لغة الضاد لغة القرآن الكريم في تراجع خطير. والدليل أن الكثير من طلاب المراحل الابتدائية والمتوسطة لا يتمكنون من التعبير، نطقا أو كتابة، عن أنفسهم باللغة العربية. يعبرون عن أنفسهم باللغة الإنجليزية. والإنجليزية التي يتحدثونها غريبة كشكولية في بعض الأحيان، لأنها خليط بين الإنجليزية التي يتعلمونها في المدرسة والإنجليزية التي يتلقونها في البيت من الخادمة والإنجليزية التي يصادفونها في الشارع. والأنكى من هذا، ما أثارني لا بل صعقني كان موقف الآباء والأمهات، حيث كانوا يتباهون بأنهم يرسلون أولادهم إلى المدرسة الإنجليزية الفلانية ذات الاسم الرنان. والأفظع من هذا، فإنهم يقولون إنهم يحاولون الحديث مع الأبناء باللغة الإنجليزية. الاستعمار اللغوي أبشع أنواع استعمار عرفه التاريخ البشري. والعرب بصورة عامة قاوموا الاستعمار ولا سيما الثقافي (اللغوي) الذي حاول نابليون تطبيقه في مصر وفشل بعد أن ثار المصريون في وجهه، وحاول الاستعمار الفرنسي تطبيقه في الجزائر، وقدم الجزائريون أنفسهم فداء لثقافتهم ولغتهم. كم يحز في قلبي أن أرى بعض الدول العربية الخليجية تقدم لغة الضاد هدية، من حيث تدري أو لا تدري، لاستعمار لغوي جلبته هي على نفسها. كل هذا التطور الهائل الذي حصل في السويد والإنماء المستقبلي الذي تخطط له بحيث إنها ستبقى في مقدمة الدول المتطورة لعقود من الآن لم يحدث على الإطلاق على حساب لغتها وثقافتها وإثنيتها. الأجنبي القادم إلى السويد هو الذي عليه أن يتأقلم وليس العكس. في دول الخليج، الأجنبي يأتي ومعه لغته وثقافته ويغرسها في المجتمع. لو كانت لخدمته حصرا، لنظرنا للأمر بشكل آخر. ولكن الأجنبي القادم، ولا سيما الغربي منه، يجلب مدارسه ولغته ومناهجه ومعلميه ومعلماته ومدرسيه ومدرساته كل شيء من الفرّاش إلى المدير إلى القلم والقرطاس، ليس لخدمة المراحل العلمية العليا التي قد نقول إن العرب ما زالوا في حاجة إليها، بل لتقديم خدمات للمراحل الأخطر في تكوين الإنسان وهي الابتدائية والمتوسطة. وهذه الدول التي تتباهى بأنها جلبت كل هذه المدارس ذات الماركات العالمية تعتقد أن هذا جزء من الاستثمار الاقتصادي، ولا تدري أنه نوع من الاستعمار الأجنبي. نصيحة من القلب ومن محب للعرب ولغتهم وتراثهم وقرآنهم: اجعلوا الدراسة والتدريس بالعربية إلزامية في كل المواد في المراحل الابتدائية والمتوسطة على أقل تقدير مع التأكيد على تعلم اللغة الإنجليزية وبطرق حديثة. إن لم تفعلوا ذلك وبسرعة فإن خسارتكم ستكون هائلة. الاستعمار اللغوي أسوأ من الاحتلال العسكري. نقلا عن الاقتصادية