وفي اليوم الثالث من إبحارنا تفتك بنا أشواق الحنين، الحنين لليابسة.. لحياة الناس على الأرض وللمدن ولون السماء المختلف.. وللنساء. ونحن نغادر ترافقنا مراكب صيد.. جزر قريبة من الساحل وألوان متغيرة للأعماق وحتى مهربين يختبئون في الجزر المنسية. نوغل بعيدا في الماء وتغيب عنا الشواطىء الحميمة.. والنوارس البيضاء.. النوارس البيضاء تظل قريبا من الشواطىء.. وتظهر ناقلات النفط العابرة.. كبيرة وصامتة عدا سعال المداخن تلويه الريح كيف تشاء. وأخيرا لا شيء سوى الزرقة.. زرقة مختلفة ليست كزرقة الصور التي ترون ولا كزرقة ماء الشواطىء.. زرقة عميقة وصامتة.. زرقة الثلاثة آلاف متر تحت الماء. وتظهر الدلافين الحميمة.. تلهو بجانب سفينتنا.. حميمة لأنها تذكرنا أننا لسنا الأحياء الوحيديين في هذا اليم.. وحميمة لأنها تلهو كأطفال فروا من فصل دراسي كئيب. وفي اليوم الأول نكون حديثي العهد بالذكرى، بعضنا يحمل شيئا من غذاء البيت.. روائح الأطفال قبلات العشق الجارح.. وتكون الليلة الأولى ورغم سنوات البحر هي الليلة الأصعب؛ لأن للبحر رائحة غريبة.. رائحة لا يشبهها إلا روائح الغياب، لكننا ما نلبث أن نعتاد ساعات النوم واليقظة المبرمجة.. تأرجح السفينة يسارا ويمينا وأحيانا للخلف والأمام وحسب ما تملي الريح. في اليوم الثاني نتناول الإفطار الأول في البحر.. البعض يجيء مسرعا ليلحق مناوبته.. آخرون بالكاد يفتحون أجفانهم من النعاس؛ لأنهم كانوا في مناوبة الرابعة فجراً.. والذين كانوا في منتصف الليل يغطون في سبات عميق سبات المسافرين في اليم.. والنهار في البحر طويل وممل.. نهار من أغنية ذات مقام واحد.. كمقام البيات. وفي الليل تظهر مجرات النجوم والكواكب، مجرات لا تُرى إلا في مسأت اليم.. ونرى الطائرات العابرة في السماوات تومض كنقاط مضيئة، وحتى الأقمار الاصطناعية نراها ونعرفها.. فمداراتها واطئة، وألوانها حمراء ولا تشبه النجوم المضيئة كوجوه الغائبين. وفي الليلة الثانية يبدأ التعب والحنين.. ومتاعب السهر والسفر. وفي الليل نفترش ظهر السفينة.. نحمل الأحاديث والذكريات، ونستعيد الحكايات التي لم نكن قد نسينا، ونتساءل أي قدر طوح بنا هنا، نحن أبناء القرى والنجوع والذين لم نر اليوم يوما؟. نلتقط الإذاعات الموجهة.. ذات الموجات الطويلة..لا رفيق لنا في الليل عدا هذه الأصوات التي تغدو حميمة.. والأغاني التي تغدو أكثر وجعا.. كأنها الوداع. وكلما صعدنا شمالا تغدو هذه المحطات شحيحة.. ويهتز بدن السفينة أكثر.. لأن الريح شمالية في الأغلب.. ويتلبسنا دوار البحر وعذابات اللايقين. ولا تعود هناك أغان، ولا حتى نشرات أخبار وكوارث.. فقط تساؤل: متى نستدير نحو الجنوب؟. وما إن نحول مسارنا جنوبا حتى يتبدل كل شيء.. البحر يغدو حميما كالحكايات.. نرى النجوم التي نألف ونعرف.. ونشعر بالدفء حتى في ليالي الشتاء. ونبدأ أيضا وهذا هو الأجمل بالتقاط عشرات المحطات.. ونسمع مئات الأغاني.. وللأغاني في هذا الليل وهذا البحر شجن مذل.. ذل غمامة تمضي وخلفها قفار العطش.ويكون مذياعي الصغيرعلى الموعد.. وعلى ضوء الحنين وحده أفتش عن تلك المحطات البعيدة.. المحطات التي ترسل غناء مختلفا.. غناء للمسافرين والمنفين ومفارقي الأوطان. أعرف تردداتها دون حاجة للضوء.. أعرف متى تبث الأغاني التي ننتظر، ولكل أغنية ذكرى مختلفة والأغاني كالعطر: ذاكرة ضد النسيان. يسألني صديقي الأقرب.. لم لا أحضرمسجلا..؟ لم لا أستمع لهذه الأغاني مسجلة حتى لا أبقى رهن الموجات البعيدة وانتظار النزول نحو الجنوب؟. يحاول إقناعي أن الأغاني هي الأغاني.. وأن الفرق هو داخل أوهامي.. لأني أعيش داخل الذكرى حتى وأنا أحيا على الماء. أقول له إن أغاني الأشرطة أغان حبيسة.. أغان معلبة.. نعيدها متى شئنا ونكررها حتى نمل.. لكن هذه الأغاني أغان مسافرة.. يسمعها الآن المئات معي في كل مكان وفي هذا الليل. أغان كلما بعدت محطاتها كلما حملت وجعا أكثر.. شجنا أكثر، واختزلت وهي عابرة آهات ودموع وحنين وحتى ضحكات، وحملت وجع الجنوب..أتفهمني؟ أتفهم الفرق بين العصافير الحبيسة وتلك التي تغني في الفضاء؟. يغادرني.. رحمة بي وبه.. وأنا أعود أتنزه في حقول المحطات.. أقطف أغنية من هنا وأخرى من هناك، وكلما مضينا جنوبا..غدت هذه الأغاني أكثر قربا من الروح.. كأنها تذكرنا أن عذابات الجنوب أزلية كبيداء اليم، وأن الفجر يكاد ينبلج. عمرو العامري، كاتب سعودي