- محمد الفهد العيسى - 290 صفحة من القطع الكبير مجرد الإبحار في ليل لا تبصر فيه الضوء مغامرة غير مأمونة.. ناهيك عن الإبحار في ليل موحش يسكنه الشجن.. إنه دون شك مغامرة غير محسوبة.. وغير آمنة.. شاعرنا العيسى اختار ركوب الصعب.. ربما لأنه المفتاح.. وربما لأن المغامرة تستهويه وتستجيب لطموحاته وأمنياته.. ورغباته.. هذا ما سوف نستجلبه سوياً من خلال أطروحاته: (إنسان بلا حدود) أولى أدبياته.. احدودب الزمان في دروب الشاعر الإنسان وشاب في اهابه التاريخ واستفاء ظله المكان عندما يشيخ التاريخ ويهرم لا مكان للإنسان كأنه الصانع للتاريخ.. يكبر بكبره.. وينهزم بانهزامه.. حينها يختفي القمر. وتضيع الحروف. وتضل القنان.. ومع حركته لا خطر.. ولا أحقاد.. الحب في كفيه ثر كالذي كالظل في ارجوحة السحر كألف عقد من جماك يعذب الا..... عند شاطئيه يرتوي حناناً يا له إباء حر.. سيد إنسان.. لم أسمع.. ولم أقرأ عن شاعر إلا وأبحر على وقع ضربات مجاديفه على وجه الماء تارة يأخذه اليمّ إلى المجهول.. وأخرى يعيده آمناً نحو الشط.. مرة ينتزع من أعماقه لؤلؤة.. ومرة أخرى تأخذه الأعماق نحو الغرق.. ربان سفينتنا أبحر عبر الحرف بزورق حبه ولكن في عيني من يهوى يسوقه الشوق.. ويستهويه الإبحار: برفة توق. يتقطر حبر أخضر رسائل حب اخضر تمتع من نبع الشوق (ما.. أوراق الورد؟؟) استهواه بحر العيون.. أخذته الرحلة بعيداً لشاطئ وجد أكبر.. لأن حبه أكبر.. والحب الكبير لا يشبعه أن يكون دائماً معاً.. اللقاء وحده لا يكفي لمرة أو أكثر بعد غياب.. وبعد ذكريات شابت على المدى السنين: أتذكرين ليل كنا في شواطئ القمر؟. نلملم القيصوم والخزامى.. ونبني مثلما الأطفال دراة الأمل وأنتِ ملء الكون نشوة ترددين: أين شاعري يذكرها بمساءات لا تنسى بوادي الباطن حيث النجوم تبتسم للنخيل.. وتلتقي مواكب السحر: سنلتقي طيفان يُشرقان في كأسين ذُوِّبا من صدى الربابة الحزين.. سنلتقي.. ولو شابت على المدى السنين.. بعد أن تشيب السنون يا عزيزي لا يبقى من الحب إلا اجترار الذكريات لأن الحياة تعتمر خريفها.. وتودع ربيعها الذابل.. (الأشرعة الممزقة) لها صوت احتراق: بالحرف الدامي من ألمي.. من غصة أحزاني من كل شقائي اكتب سطراً من قلبي بل من عمره لأن خطوات من دنياه لها وقع نعاساته التائهة قد ضلت سبيلها وخلفت له سهداً ممرورا عالقاً في أهداب عينيه.. وشقاوة عمر مُرّ المذاق لا يكاد يطاق هكذا كانت حاله وآماله وهي تنزف طوال: سبعة أعوام شرعتني الريح إلى جزر الحيتان المسعورة زرعتني الذكريات يا كل جراحي المقهورة في الغربة سأم.. طعم رماد انشود وهم.. اسطورة ومن الأساطير ما أضنى بوجعه.. ودمعه.. بل ودمه.. لأنه بداية (احتراق) آه.. ويعتصر الأسى قلبي المُعنَّى.. في الصباح وفي المساء وتمور مني ألمي الجوانح.. ألف أفعى بين أوردتي قلوب أفعى يا شاعرنا واحدة كافية بنفخ سمها أن تقتل.. حتى دون أفعى لفح القتاد والمتاهات. وكأس البؤس. ونزيف النفس. والهجير.. والهجر كلها كافية كي تشرق الدموع بما وجدت.. وتشد الدموع الساخنة إلى مجراها حتى تجف.. (الموتر الحزين) يملأ خياله شجواً لا شدواً.. ومع هذا يغني.. يدندن بلحن وكلمات شكواه: البوح لغة بلواه: الريح تزمجر.. تصفح شباكي وعيون الأطفال تتساءل في حيرة وأحس بكل حروف الكلمة تخنقني وبدمعي ازدرد الكلمة لا شيء مما تقدم إلا التعب.. وإلا الصخب في بحر المعانات.. هذا ما أمكن تلمسه عبر عناوينه المتلاحقة، حتى (رفة جناح) لها نفس الجراح: أجري وراء مركبات الشمس والشفق ارتدي ظلام الليل.. مِن جليد قراه.. للدفء احتطب ويعبر الليل الطويل فوق عاتقي إلى الغسق فلا نصب عصاه على الرمال أفلح.. ولا انشودته للفيء الظليل أظله ووقاه شعير الهاجرة.. ولا حطبه منحه الدفء كي لا يحترق.. شاعرنا (العوامي) أمسك بعصا التحدي.. هزها في وجه التحدي بكل اقتدار ونجح: طاولتني الأمواج عنفاً ولكن حطمتها على الشواطئ صخوري داهمتني الرياح عصفا هجيرا فتلاشت من لفح وهج سعيري انا صنو لكل خطب جسيم والعوادي تمرغت في بثوري ارادة لا تقبل الإهانة، ولا الاستهانة: لاحقتني على القنان بغاث مرقتها على السفوح نسوري حسناً لو كانت مزقتها بدلاً عن مرقتها: اتجاوز بعضاً من عناوينه.. يأخذنا الشاعر معه إلى الشاطئ الحزين: وكل ما على الحزين حزين: يدلف الصياد نحو الشاطئ الحزين وفوق مكنه ستون عاماً، يداه ترتجفان رجلاه فوق الأرض تندبان أمسه الذي مضى بداية اجهاد.. ونهاية جهد.. حلمه أن يعيد.. عشرون يوماً بلا صيد.. شباكه تمزقت.. البحر خاصمه.. ومع هذا: مجدافه يردد الموال في أنين. مناهل الصبر انتهت.. البحر جف فيه الصيد لم تعد به حياة.. تجربة فشل.. تعقبه تجربة نجاح.. ما كل من غزا يكسب.. ولا كل من يكسب لا تواجهه محطات فشل: (الأحرف العذارى) اختار منها هذا المقطع: عندما الأطفال للأحلام تبتسم وتلهو في أسرة تهزها ملاك تشدو لهم الحقيقة بحلو الذكريات عن الظبا التي تعانقت في روضة (التنهات) وعن.. وعن.. وتنتهي الحكاية واحترق! شاعرنا وقد تجاوز مرحلة الطفولة.. وقارب من مرحلة الكهولة يتمنى لو كان طفلاً تهدهده ملاك في روضة التنهات. أو أية روضة أخرى.. المهم أن يقضي عمره طفلاً بأحلامه البريئة يلهو ويلعب بعيداً عن صخب عالمنا المسكون بالنكد. والكدر والشقاء. وصبا نجد (غنوها من غناها) ومن بينهم شاعرنا العواجي: ألا يا صبا نجد. فديتكِ يا نجدي متى كان عهده بالأحباب في نجد؟ متى كنت فيهم في مواسم حبهم وفي روضة التنهات كيف همو بعدي؟ لم تكن روضة التنهات مجرد عارضة وقد أعادها إلى الأذهان مرة ثانية.. لا وأن للتنهات قصة لا تخلو من تنهيدة: أيذكرني الخلان في الموسم عندما تلوح بروق المزن. أم أُنسيوا عهدي؟ سقى الله أرضا كنت بين رياضها أريق كؤوس البوح وجدا على الوجد وصحَّت الرؤية.. البوح يتجاوز حدود برق المزن.. أنه على من هو أهم.. الخلاق: ومن ذكرياتهم إلى تلك (الشموع المحترقة) عندما يفكر الإنسان أنه إنسان عندما يضيع في أفكاره العدم عندما يفسح الإنسان الخلود في الحروف يغتاله السأم.. تجدل الحياة من مسائه مشانقا ليختنق.. الإنسان أبداً لم يكن جسراً ولا عاطفة.. ولا حروفاً مجردة.. ولا اتكال.. ولا تواكل.. ولا انتظار لما يأتي به الغيب.. إنه أكبر وأكثر من كل هذا.. إنه إرادة حية قادرة على العطاء والإضافة.. دون هذا هو ميت والسلام. في ديوان شاعرنا الجميل الصور والعناوين الكثيرة المتشابهة والتي تنجاب إلى البحر، والموج، والأشرعة.. والأحزان والتي توحي أن لوجدانه مرافئ خاصة يركن إليها.. يبثها نجواه.. ويصطفيها لأسراره متى كانت له الرغبة في البوح بها. وفي أدبيات شعره يكاد يطغى الحزن.. والجرح على مساحة البسمة والفرح ربما لأن مساحة الألم في حياة الإنسان الشاعر أكبر من ساحة الأمل والسعادة.. بحكم إحساسه بالاغتراب الباطني المسيطر على حواسه وخطابه الشعري.. أنه هنا يشتكي.. الغربة. أبكي.. أبكي.. أتمزق أشهق من أحزاني.. من جرح ينزف من زفرة حبي المذبوح بأضلاعي أبكي أسفح من وهج التيه. ومن لفح الغربة كل قِناني.. ومن غربة شاعرنا إلى (أسوار المقابر) حيث الاغتراب الطويل الطويل: أعنّة الجياد مؤقت أكفه.. تدور تدور بين أسوار المقابر، وفي جوانحي تمور ألف فارس يهز رأسه المدى بموت ليس يدري كيف مات! ضاع. ضل.. تاه.. مات عناوين تقرب من الموت. أو تفضي إليه.. تنوعت الأسباب والموت واحد.. الحياة دون روح.. دون أمل.. دون عمل موت بطيء.. هكذا الأسى يرسم لوحة ريادية ضوء فيها (ضباب الأسى) تتحدث عنها: فلترمي. لا كان حبك والهوى لا كان في الأيام يوم لقاكِ يا ميتة الاحساس حسبي انني قلدت جيدك من سنا أفلاكي الحب. والألحان. والشعر الذي تشدو به السمار في ذكراك لا كان ليلا إن سهرتُ نجية من أجل حبك.. أو لطول حيك طلاق كاثوليكي. لا عودة فيه، ولا رجعة عنه.. هكذا حسم شاعرنا المتجلي والغاضب أمره.. الحب لا يتفق مع التنكر أنه حب الكرامة والكبرياء.. كما يتحدث: لملمت أحرفي صلبتها على أوتار معزفي سرتُ. سرتُ. أجرها خلفي على الطريق فوق كل درب مندوبة لليل.. للضباب أحرفي سرتُ.. سرتُ غارق حتى النجيع في الجراح.. وفي فمي اسمها ترنيمة يشدو بها تلهفي وأحرفي تئن خلفي.. نزفة منها ألف جرح والليل يسحل القطوف بين أضلعي.. أعي.. أو لا أعي بؤس.. ويأمل ينسج عباءة شعره خطوط ليل.. وخيوط أحرف ضبابية متجهمة.. آه من تجربة حب نهايتها حرمان.. (ندوب) عنوان جديد لأشجان متجددة: يا ليالي البؤوس والحرمان خذيني أنا لا أعرف الا أنتِ في كل سنيني لي أنتِ القوت.. ومن الحرمان.. ترتاض على الشقوة نفسي وبأغوار سحيقات لبؤس شرقت باستهلالة ظنوني.. كم أنت صابر يا عزيزي صبر أيوب.. ولكن بمواجهة أكثر وبمجابهة أكبر لأن المقلب لا يتحمل ما يتحمله المعقل.. من حقك أن تصرخ.. هذه المرة و(على المنحنى) كان لك صوت جديد.. ونبرة جديدة سعدنا بها من أجلك: التقينا.. ننزع الانجاب عبَّا اثملتها شفتانا واحتضنا كل ما في الكون من لهفة وجد.. وكأنا لم يكن في الدنيا سوانا.. إيه يا ومضة عمري.. أترى يحدو السرى أيامنا.. أم ترانا؟! سؤال خشيتُ منه عليه! أخيراً مع شاعرنا المجيد.. العواجي في ديوانه (الابحار في ليل الشجن) بعد أن عرف الحب.. بعد أن عرك الحب وعركه الحب.. أخيراً معه في مقطوعته (المجتمع الأزرق) حيث يقول: أمسي.. عِرق الأثل.. مدىً أبعد من المواء شق الصخر بدمع الطل، يشرب من نبع ازرق يدخل في (الصمان) وفي (الدهناء) الماء يحف لكل رياع الليل. للإعصار.. أمسي.. من غدي ينثال رواء أيامي القابلة مماته عدنانية أنحتها بالخفق حروفا تنبت من كل شفة تبقى أبدا.. ونجوم الليل حداء.. يا أمي -حراء- أحطم فيه جدار الليل يا أيامي.. نشرا أندى من كل صباح للقلب المدلج يحدو الدرب بومض رجاء يغزل لسهاري الليل عطاء انه الليل الذي أقض مضجعك.. فأوجعك.. وأفجعك.. حسنا انتصرت عليه في النهاية.. وبالنسبة إليك مسك ختام.