لقد اعتمد فيلم براءة الذكريات كثيرا على الرواية بقدر اعتماده على الأشياء التي ألهمتني إياها (الساعات وأكواب القهوة والصور ومقاطع الأفلام القديمة التي تم تصويرها في إسطنبول)،على أحلام اليقظة المصاغة في طبقات من التسلسل الشعري،على المناظر الطبيعية الفعلية للمدينة،إنّ استكشاف الكاميرا للأماكن حيث وجدت الأشياء التي ضمنتها مجموعتي تتسق تماما مع رؤيتي لما يجب أن يكون عليه المتحف،حيث يكمن الطريق إلى المتاحف المستقبلية في بيوتنا، في حياتنا اليومية وفي الشوارع،لا يجب أن تعنى المتاحف بعد الآن بالتاريخ على نطاق واسع،ولا بملاحم الملوك والأبطال،أو بتشكيل الهويات الوطنية،بل يجب أن تركز بدلا من ذلك على محتويات وممتلكات العامة كما تفعل الروايات الحديثة،حينما شرعت أتجول في شوارع إسطنبول تحضيرا للرواية والمتحف،داهمت أسواق السلع المستعملة ومتاجر الكتب المستعملة ومنازل الأهل والأصدقاء بحثا عن علب الدواء القديمة و منافض السجائر،وصور المساجد المؤطرة وبطاقات الهوية وصور جوازات السفر،وأدركت أن جمع القطع الفنية للمتحف لا يختلف كثيرا عن جمع القصص والحقائق لتأليف رواية. تجري أحداث قصة الحب في "متحف البراءة" أساسا بين عامي 1974و1980م،في حين يضم المتحف الأشياء والصور التي كان يستخدمها ويراها الناس في إسطنبول وشخصيات الرواية طوال النصف الثاني من القرن العشرين،ولكن كاميرا"جرانت" الشغوفة أرادت أيضا أن ترصد إسطنبول القرن الحادي والعشرين،فضلا عن التوسع الحضري السريع وتراكم الثروة الذي شهدته المدينة على مدى السنوات الخمس عشرة المنصرمة،والطريقة التي امتزجت بها ناطحات السحاب الجديدة مع روح المدينة الأقدم والأكثر سوداوية،فما الذي يمكننا فعله؟ توفي أبطال قصة الحب المحزنة التي نرويها،وتحول المنزل الذي عاشا فيه إلى متحف، ولذا فكرت في اللجوء إلى إحدى الشخصيات الثانوية التي لم يكن لها دور كبير في الرواية،لكنها كانت تذكر قصة حبهما بشكل واضح،وكانت قد غادرت إسطنبول لأسباب سياسية بعد تكشف أحداث الرواية بقليل، وعادت بعد اثني عشر عاما لتجد المدينة قد تبدلت، وشأني أنا و "جي" كانت تريد الآن الذهاب في تمشية لساعات طويلة بشوارع إسطنبول، وسأحظى أنا بالمتعة الكبيرة في تدوين أفكارها عن المدينة والحياة والذكريات. كما هو الحال مع الرواية والمتحف، لقد نبع هذا الفيلم في معظمه من تجولي في إسطنبول، خلال النصف الثاني من التسعينات، قمت بتمشيط شوارع وأحياء وسط المدينة بحثا عن مبنىً أستطيع تحمل نفقات شرائه، حيث يمكن أن يعيش أبطال قصتي العاطفية الخيالية، والذي من شأنه أن يصبح لاحقا متحفا،(كانت كل المنازل والأراضي رخيصة في ذلك الوقت ولم يكن ثمة الكثير من السياح في الجوار)،في عام 1998م ،اشتريت أول قطعة من مجموعتي، المبنى الكائن في شارع"كوكوركوما"والذي يبلغ من العمر مئة وعشرين عاما وهو ذات المبنى الذي يستضيف المتحف حاليا،ظللت أهيم باحثا عن الأواني الفخارية القديمة وأدوات المطبخ وزجاجات الخمور والمفاتيح والساعات ومنافض السجائر وصور من مشاهد الحياة اليومية، وكل الأشياء التي تصورتها جزءا من حياة الشخصيات التي عاشت في المبنى الذي ابتعته،(أسواق السلع المستعملة في إسطنبول ومتاجر الكتب المستعملة وهواة جمع المتعلقات الشخصية المشهورين ممن لم يتعلموا بعد كيف استخدام الإنترنت). وبحلول الوقت الذي كنت أعد فيه للمتحف، بدأت أيضا في كتابة رواية جديدة، "غرابة في عقلي"، وقضيت أمسيات طويلة في التمشية حول الأحياء الفقيرة في قلب المدينة، موطن البائع المتجول- بطل الرواية الجديدة، كنت أعكف على الكتابة حتى الرابعة صباحا ثم أتوجه إلى المنزل، بينما أتجرع متعة العودة من المكتب سيرا في ظلمة وسكون الليل، في أحد مرات تجولي في حرم المدينة مع "جرانت" عبر الأحياء المحرومة الخطرة البعيدة والبالية، لاحظنا أن ذات الكلاب التي كانت تحكم الشوارع ليلا منذ العصر العثماني كانت لا تزال في الجوار، ربما لم تعد تتجول في جماعات، لكن مازالت الكلاب المنفردة تقبع بصبر في شوارع المدينة، وتراقبنا باهتمام. كنا نادرا ما نتحدث خلال سيرنا، تماما مثل كاميرا"جي"في فيلم"براءة الذكريات"، بل كنا نفضل التركيز على المشاعر التي حركتها زوايا المدينة المظلمة والحصى والظلال، ربما لهذا السبب لم يسألني "جرانت" أبدا السؤال الذي كان دائما ما يتردد على مسامعي من قبل الأشخاص الآخرين:"لماذا قررت إنشاء هذا المتحف بينما كنت بالفعل قد قمت بكتابة الرواية؟"، لو سألني لم أكن لأعطيه جوابي المعتاد:"كان يتلبسني جنيا"،ولم أكن لأقول له:"لقد كنت حقا في شبابي أود أن أصبح رساما"،ولكنني كنت سأجيبه بدلا من ذلك:"ربما كانت الرواية والمتحف بطريقة ما الشيء ذاته". أورهان باموق