تحمل اللّغاتُ ثقافةَ أهلها غير مُتثاقلة، ذلك هو حال معظمها في العالَم؛ تحمل الإنكليزيّة ثقافةَ الإنكليز، وتحمل الفرنسيّةُ ثقافةَ الفرنسيّين، وتحمل الإسبانيّةُ ثقافةَ الإسبان، وتحمل الروسيّةُ ثقافة الرّوس، والصينيّةُ ثقافةَ الصينيّين...إلخ، فتتعرّف بها، وتَحجز لها مكاناً في سجلّ التّاريخ العالَميّ للثّقافات الإنسانيّة، فلماذا لا تحمل اللّغةُ العربيّة ثقافةَ أهلها إلى العالَم كما تفعل شقيقاتها، مع أنّها الأكبر بينهنّ في العمر، والثّراء، والشّمول، ولها جذرٌ ضارِبٌ في التّاريخ؟ لماذا ثقلت عليها ثقافةُ أهلِها، فعجزت عن زجّها في مجرّة الثّقافات الحديثة، حتّى ليكاد العالَم يجهلها، ولا يعرف أحوالها؟ لا يَعلم، غير حفنة من الدّارسين، ما يفكّر به المثقّفون العرب، وما يتخيّلونه، وما يكتبونه، والجهل بالشّيء يؤدّي، في الأرجح، إلى إنكاره، أو في أقلّه إلى عدم الاعتراف به. وسوف أقصر حديثي على الأدب بأنواعه السرديّة والشعريّة، إذ إنّ الغالبيّة العظمى من أدباء العرب لا مكان لهم في خارطة الأدب العالَمي، حتّى راحوا يتوسّلون التّرجمة لكي ترمي بهم في ذلك التّيّار الجارف. ولو افترضنا حدوثه لأفرادٍ منهم، فمكانهم في أسفله، فلا فضول للنّظر في مرآة تلك الآداب، وتقصّي أحوالها، واستكشاف هويّة أهلها. تَرتسِم معالِم هويّة العرب بغَير آدابهم. ترتسم من الصّور النّمطيّة عنهم، فما الذي حَدَثَ للغةٍ كانت تحمل نفثاتِ الخيال إلى شتّى أرجاء العالَم في الماضي، ثمّ عجزت عن حمل شيء مذكور منها في الحاضر؟ حاول كثيرون استجماع شتات الأجوبة المُحتمَلة، فلم يتمكّنوا من وضْعِ أيديهم على الأسباب القابعة خلف تلك الظّاهرة التي تُخالِف المعقول، ولا تستجيب للمنطق من حديث عراقة اللّغة والثقافة العربيّتَيْن، ومن ذلك، فسوف ينبري مَن يقول بعدم حاجة العرب لآداب غيرهم، فلغتهم كفتهم الحاجة للآخرين، وكذلك ثقافتهم القديمة. وقد خلا تاريخهم السالف، تقريباً، من ترجمة آداب الآخرين، بخاصّة الشّعر، فإذا كان ذلك حال أسلافهم، فما حاجة أخلافهم لآداب الأُمم الأخرى؟ وما داموا قد اغتنوا بما لديهم، فهُم ليسوا بحاجةٍ لأن يعرفهم الآخرون، فذلك من فضلة الحاجات، وليس من العمدة في شيء، إذ الإمساك خَير من الإقدام، والكتم أَوْلى من الجَّهْر، ولا فائدة في ترحُّل الآداب، وقد سَقَطَ فَرْضُ تداولها، وسوف يعترض غيره، ويَتّهم الآخرين بالجهل المركّب الذي لا يسلِّم أهلُه بالحقّ البيّن، لأنّهم لم يُبادروا إلى معرفة آداب العربيّة، فالعَيب في أُممٍ صمّتْ آذانها، واستغنت عن آدابٍ عريقة، لها حظوة بين أهلها، وكانت مهوى الأفئدة في ما مضى، والخاسر مَنْ ينكفئ على ذاته متوهِّماً أنّه نَبع المعرفة، ومَنهل الأدب. وسواء أخذنا برأي أولئك أم بحجج هؤلاء، فلن يصفو ماء عكر، عافته الأنفُس عن قصد أو عن جهل، بموجب هذه العلّة أو تلك، فقد ركدَ ماءُ الأدب العربي الحديث في مُستنقع، ولم يَجرِ في تيّارٍ يرتشفه الآخرون زُلالاً بلغاتهم، مع أنّ أغلبيّة أهله يتهافتون على التّعريف بأنفسهم من دون طائل. فقد انصرف عنهم أهل اللّغات الأخرى، وراحوا يتبادلون بضاعتهم الثّقافيّة في ما بينهم غير راغبين في اقتناء سواها، ما جَعَلَ الكاتبَ العربيّ يجأر مُطالِباً بالمُساواة، ثمّ يروح يتضجّر من الإهمال بعد ذلك، فيلوذ بالصّمت، ويشرع في حَوْكِ فرضيّةٍ لم تَحْظَ بتقديرٍ في المُجتمع الأدبي مفادها أنْ لا حاجة لي بالآخرين، فأنا أكتب لبَني قومي، ولَهم وحدهم يخطّ يراعي تلك الدُرَر. وفيما هو يلوك بمرارة أشواك تلك الفرضيّة، لا يغيب عنه السّيل الجارف للآداب العالميّة تغزوه في عقر داره. آداب جيّدة تُشنّف لها الآذان، وآداب ركيكة لا تساوي ثمنَ الورق الذي تُرجمت عليه، فلا عجب أن يعزف عن المشاركة، ويلوذ بالصّمت في نهاية المطاف، كأنّ الكتابة بالعربيّة تورِث الإحباط، وكأنّها تشدّ كاتبَها إلى الوراء، إلى العصور الخالية، فالإهمال أعظم أنواع الإساءة. ويُلاحَظ على مَن كان له حظٌّ ضئيل في الترجمة إلى اللّغات الأخرى من المؤلِّفين العرب المُعاصرين أنّه كثير الافتخار بذلك، ويُشير إليه في ثبت مؤلّفاته، حتّى ليجعله، في غالب الأحيان، قَبل ذكر عناوين تلك المؤلَّفات، وهو أمر غير معهود لدى غير المؤلّفين العرب. ويأنف عنه معظم الكتّاب في العالَم، ويعود ذلك إلى شعورٍ بالغبن لدى الكاتب في ثقافته القوميّة، ما يدفعه إلى مُحاولة لفْت الانتباه إليه بذكر وجوده في ثقافاتٍ أخرى، إذ إنّه وقد احتُفي به في ثقافةٍ غريبة، فيُصبح من الغبن ألّا يُحتفى به في ثقافةٍ قريبة، ويبدو الأمر مُستغرَباً من وجوهٍ عدّة. فتجاهُل قومه له يدلّ على أنّه أعلى منهم مَرتبةً، وذلك باعتراف الأقوام الأخرى به. وفي كثيرٍ من الأحيان يغمض الكاتبُ عَيْنَيْه، ويصكّ أذنَيْه عن حقيقة لا تَقبل المُغالَطة، وهي أنّ الاعتراف بالكاتب ينبغي أن يأتي من ثقافته القوميّة أوّلاً، فإنْ هي اعترفَتْ به، اعترفَتْ به الثّقافاتُ الأخرى عاجلاً أم آجلاً، إذ لا يُقال عن هوميروس، أو دانتي، أو شكسبير، أو ثربانتس، أنّه عظيم لمجرّد أن تُرجِم إلى اللّغات الأخرى، بل قيل عنهم عظماء لأنّ أهاليهم عظَّموهم، وخَلعوا عليهم ما يستحقّون من قيمةٍ قَبْل الآخرين. وفي الأزمنة الماضية لم يُقَل عن المُتنبّي، والمعرّي، والتّوحيدي، وأبي نوّاس، وابن المقفّع، والحريري، إنّهم مهمّون بسبب معرفتهم في اللّغات الأخرى، إنّما لأنّهم انتزعوا اعترافهم من الثّقافة العربيّة نفسها. وباءُ توسُّل الاعتراف من الآخر وباءٌ حديث العَهد، ضَرَبَ صميمَ الثّقافة العربيّة في القرون المتأخّرة، إذ أمسى وجود الكاتب في لغةٍ أخرى أهمّ من وجوده في لغته، فأن يكون قد نُقِل إلى لغةٍ أخرى، حتّى ولو كان نكرة فيها، تُعَدُّ تلك ميزة تَخلع عليه الأهمّيّة الاستثنائيّة بين أقرانه. وإلى وقتٍ قريبٍ جدّاً، لم يكُن الأمر شائعاً بالصورة التي أَتيتُ على ذكرها الآن، ولا أحسب أنّ طه حسين، ونجيب محفوظ، والطّيّب صالح، ولا السّيّاب، وأدونيس، ومحمود درويش قد تفاخروا بشيءٍ من ذلك، ليكون لهم شأن مذكور في العربيّة. غير أنّ جماعاتٍ من أشباه الكُتَّاب أمسى دأبُها التّفاخُر بادّعاء تداول مؤلّفاتها في لغاتٍ أخرى، مع أنّه لا يكاد يكون لها ذكرٌ فيها، ليس لخفّة قيمتهم، وضحالة مواهبهم فحسب، إنّما، أيضاً، لخفّة كفّة الثّقافة التي يكتبون بها وينتمون إليها إلى درجة أمسى الكاتب العربي يبحث له عن مَوطئ قَدَمٍ في ثقافةٍ أخرى، حتّى لو أنكره أهلُها. لم يكُن في وارد الكتّاب العرب الانشغال بترجمة أعمالهم إلى اللّغات الأخرى، فقد دأبوا على التّأليف بالعربيّة لأهل تلك اللّغة، وكان أُفق التلقّي ينتهي عند تخومِ ديار العرب؛ إذ يكتفي الكاتِب بتداوُل مؤلّفاته في اللّغة العربيّة، والمُجتمع الثّقافي العربي، فهما كفيلان بخلْعِ الشّرعيّة الأدبيّة عليه. لكنّ المَوازين انقلبت، وأَمست تُرجِّح كفّةَ الكاتب بين أقرانه إذَا ما حُظِي عملٌ من أعماله بالتّرجمة إلى لغةٍ أخرى، حتّى لو أُهْمِل كتابُه وطواه النّسيان. حفنةٌ صغيرة من الروايات والأشعار شقّت طريقها إلى عالَم اللّغات الأخرى، وأغلب ما تُرجِم لم يَقَع هضْمه، كأنّه وافدٌ دخيل مجهول الهويّة، ولم يَعُمْ على ظهرِ أمواجِ السّرد والشعر العالَميَّيْن، إنّما انحدرَ بسرعة البرق إلى القَعر. أحسب أنّ الأمر يرتبط بشعورٍ مُتفاقِم من عدم الاعتراف، حيث لا تعترف الثقافةُ العربيّةُ بأهلها إلّا على مضض، وبآثار معدودة، وذلك لعَوزِ في قدراتهم الإبداعيّة، من جهة، ولنقْصٍ في قدراتها التواصليّة، من جهة أخرى. فمِن بين مئات الروائيّين والشعراء، لا يكاد يُشار إلّا إلى عددٍ يُقارِب عدد أصابع اليدَيْن، وسواهم يتدافعون بالمناكب للنشر في اللّغات الأجنبيّة التي صرفتِ النّظر عنهم، واتّبعوا وسائل لا تخطر ببالٍ من أجل عملٍ من أعمالهم إلى تلك اللّغات. للثقافات الرّاسخة أعرافٌ صارمة، ويَندر فيها أن يحوز الكاتب على مَوقعٍ مُتميّزٍ في لغته بالإيعاز من لغة أخرى، فقد يُذكَر فضلُ الفرنسيّة على إدغار آلان بو، وخورخي لويس بورخيس، وألف ليلة وليلة، ولكنّ ذلك استثناء صغير عن قاعدة عريضة، إذ إنّ الثّقافة القوميّة هي التي تخلع الاعتراف على أدبائها. حَدَثَ ذلك عند الرّوس، والإنكليز، والفرنسيّين، والألمان، والطّليان وغيرهم كثير، ولا حاجة للتذكير بأنّ الثّقافة العربيّة القديمة، هي التي حَملتْ كبار أدبائها، وخَلعت الاعتراف عليهم، منذ امرؤ القيس، والمتنبّي، وبديع الزمان، حتّى أحمد شوقي، والجواهري، ومحفوظ. والبحث في غير هذا المكان الرّحب كالْجَرْي وراء سراب. فهَل من عَيبٍ جسيم في العربيّة وآدابها يجعل الآخرين يعزفون عنها، ويصرفون نَظرهم عن الاهتمام بها، ولا يفتنهم شيء فيها؟ نعم، تتوفّر أحمالٌ من العيوب التي حالت دون اقتحام العربيّة مضمار المُنافَسة الأدبيّة في العصر الحديث، عيوب عامّة لها صِلة بحواملها الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وعيوبٌ خاصّة لها صلة بمحمولاتها الأسلوبيّة والدلاليّة. في أوّل قائمة العيوب العامّة: انتهاء أمر أهل العربيّة إلى تابعين بعدما كانوا متبوعين، ولا أحد يحفل بثقافة التّابع وآدابه، إلّا ما ندر، فحينما تتحوّل مراتب الأُمم من متبوعة إلى تابعة، سوف يترتّب على ذلك تخلّيها عن دَورها وحقوقها، ولن يلتفت إليها أحد، فتنسج، بسبب الحَجب والنسيان، أسطورةَ المجد والخلود، ويُصبح وهْمَ الاستغناء عن الآخرين عقيدةً لا تحتاج إلى برهان. وفي مقدّمة العيوب الخاصّة: سلامة طُرق التّعبير عن مشاعر أهلها، وتمثيل أحوالهم، فمُعاينة الأساليب الشّائعة فيها تُثبت أنّها تُقارب موضوعاتها، إمّا بإنشاءٍ مسطَّحٍ لا جذور له، وإمّا بألفاظٍ مهجورة لا تُحيط بالمطلوب إيحاءً ولا تقريراً. وهذان الأمران تَخطّتهما حاجةُ الأدب للتعبير عن حياةٍ تَسير على منوالٍ دائم من التغيير. وبسبب ذلك، لا يعزف عنها أهلها فحسب، بل حتّى الآخرون الذين يرتابون منها، ويتباعدون عنها، كأنّها تحمل وباءً مُعدياً. إذاً، لماذا نتلهّف لآداب الآخرين فيما هُم يُجافون آدابنا؟ وإن لم تُتَرجَم فلماذا نُتَرجِم؟ وكفّة مَن في ميزان المعرفة هي الرّاجحة، كفّة مَن يُقبِل أم مَن يُعرِض؟ ومَن الذي سيتولّى البتّ في الأمر؟ هل يجوز استبدال لغة بلغة ليحظى الأدب بنصيبه من الاهتمام، ويحظى أهله بالرعاية؟ أو ينبغي إحياءُ قدرةٍ على تحقيق ذلك؟ حقيقةً، لا الاستبدال مُمكن، ولا الإحياء مُتاح، فالاستبدال في جوهره إحلال لغة محلّ أخرى، أي إحلال رؤيةٍ للعالَم محلّ رؤية، بمعنى إحلال هويّة محلّ هويّة، فهل يُمكن للكاتِب استبدالُ لغةٍ أخرى بلغته، وهو يروم التّعبير المجازي عن عوالمه وتخيّلاته؟ إنّ الأدب نِتاج ألفة مع اللّغة، فالأديب لا يستعيرها لتنوبَ عنه في قولِ ما يُريد، بل يتنفّسها لكي يُواصل حياته، ويُديم تخيّلاته. وعلى ذلك، فالاستبدال غير مُمكن إلّا في حالاتِ الاستيطان الطّويل الذي يؤدّي إلى إبادةِ ثقافةٍ واستيلادِ ثقافةٍ أخرى، كما وَقَعَ في أميركا وأستراليا. أمّا الإحياء، فهو بَعْثُ ميّتٍ من قَبره. ومن المحال إحياء الأموات، فحينما تندثر ثقافةٌ يتعذّر بعثُها أيّاً كانت وسائل البَعْث، وعلى هذا يُصبح من المحال انتشال ثقافة طَمَرَها ترابُ الزّمن. يُحيط بالعربيّةِ وآدابها شرطٌ تاريخيٌّ معقّد، شرطٌ لا يقبل الإحلال ولا الإحياء، وفي الحالتَيْن ترتسم الاستحالة، والرّاجح هو تركيب جديد يَستخلص خياراً يَجعل من سياق الثّقافة العالَميّة قابلاً للأدب العربي ليس بوصفه دخيلاً عليه، بل أصيلاً فاعِلاً فيه، كما هو حال الآداب الصّينيّة واليابانيّة والهنديّة واللّاتينيّة والإفريقيّة. وذلك يلزم مراجعة شروط السياق المُنحرِف عن قاعدةِ التواصُل والتفاعُل، وهي بمُجملها شروطٌ غربيّة مشتقَّة من ثقافةٍ تَمركزت حول ذاتها منذ أن زَرعتْ بذورَها الحملاتُ الاستعماريّة في العصر الحديث في سائر أرجاء العالَم. تلك أعرافٌ صار لِزاماً إعادة النّظر فيها، كما صارَ أيضاً لزاماً تنقية الأدب العربي من وسائل التعبير والتمثيل لينخرط في مَعْمَعة العصر، بما يُوافِق معاييره العامّة. هل يحتاج الأدب العربي إلى جسرٍ يَعبر به إلى منطقة الاهتمام؟ أو هو بحاجة إلى قاربٍ يعوم به في ذلك النهر الجارف؟ مَن يُشيِّد القنطرة؟ ومَن يبني القارب؟ وهل ينبغي للأدب العربي ألّا يَبرح موطنه؟ هل الأدب وقْفٌ على أهله؟ أو أنّه يرخِّص لسواهم التصرُّف فيه تلقّياً وانتفاعاً؟ إن أذنتَ بشيء تكون مُبتذَلاً، وإن حظرتَ شيئاً تكون مُتغطرِساً. إنّ تغييرَ مسارات التاريخ الثقافي أمرٌ أشبه بالمحالات في المدى المنظور، وتيّار الآداب العالَميّة يجري في اتّجاهٍ لا يريد للأدب العربي أن يكونَ أحدَ روافده، وكأنّ الكتابة باللّغة العربيّة جُنحة، مع أنّ كثيراً من الآداب، على الرّغم من حداثة نشأتها، راحت تَرفد ذلك التّيار، فلا يجوز أن ينكفئ الأدب العربي، ويرتدّ، وينقطع عن سياق عصره، فهذا لا يفيده، ولا ينفع الآداب العالَميّة. ولكي ينعطف مسار الآداب العالَميّة في اتّجاهٍ يمرّ بمنطقة الأدب العربي، وينفتح عليه، يحسن بأهل ذلك الأدب أن يجوّدوا فيه، ويتخلّصوا ممّا علقَ به من أدرانٍ صَرفتِ الآخرين عنه، وجَعلَتْهُ عسيرَ الهضْمِ من قِبَلهم، ولا يتغاضون عن قصوره. إذاً، لا بدّ من التهذيب والتجويد ليتمَّ الاعتراف بالأدب العربي. لعلّ أحد أهمّ أسباب الانغلاق هو أنّ التواصل بين الطّرفَيْن اتَّخذ اتّجاهاً واحداً، طَرَفٌ يرسل والآخر يستقبل، وليس للأخير حقّ الإرسال. لقد أَمستِ العلاقةُ بين الطّرفَيْن علاقةَ تابعٍ بمتبوع، لا تقبل بوضع الطّرفَيْن مَوضع المُساواة في العطاء والأخْذ. وبسبب انعدام التّكافؤ، بصرف النّظر عن جودة الآداب، ارتسمَ مسارٌ واحدٌ يأتي بالآداب الغربيّة إلى المُجتمعات العربيّة. لقد انعدم التفاعل بين الآداب، وحلّ تأثير طرف في طرف، لأنّ التواصلَ الحقيقي في أضعف حالاته. ولا بدّ من الأخْذ في الحسبان أنّ الآداب العالَميّة لا تقتصر على الآداب الغربيّة، بل هنالك آدابٌ للأُمم الكبيرة والصّغيرة، فحيثما التفتَ المرءُ يَجِدُ ثقافاتٍ وآداباً، ولكنّ المظهر الطّاغي، هو أنّ الآداب الغربيّة هي المؤثِّرة، والشرقيّة والجنوبيّة هي المتأثِّرة، وصار من المُستنكَر القول بغير ذلك. وبإزاء تبعيّةٍ عمياء للآداب الغربيّة، لم تنشأ صلاتُ تفاعُلٍ بين الآداب العربيّة وآداب الأُمم الأخرى في آسيا وإفريقيا وأميركا اللّاتينيّة، مع أنّ السّياقات الثّقافيّة شبه مُتماثِلة، والتجارب التاريخيّة تكاد تكون مُتطابِقة. *ناقد وباحث أدبيّ من العراق * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.