يقدم آذرتاش أذرنوش نفسه كأول إيراني حائز شهادة الدكتوراه في اللغة العربية، وكأكثر من خدم هذه اللغة في بلده. في السبعين من عمره، يعترف بأنه كان مرغماً على دراسة العربية في بادئ الأمر، غير أنه بعد سنة من دراستها أحبها وجذبته آدابها فتخلى عن مشروعه بالتحول نحو الأدب الفارسي وتابع معها. وها هو يعمل منذ نصف قرن مدرّساً لها ومترجماً عنها وكاتباً فيها وباحثاً في علاقتها المعقدة مع لغته الأم. أذرنوش رئيس قسم اللغة العربية في جامعة طهران، ورئيس قسم الآداب العربية في دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، من أبرز الوجوه الثقافية والعلمية في طهران، نشر مؤلفات عدة، منها معجم اللغة العربية المعاصرة عربي - فارسي، كما ساهم في كتابة مقالات عن العربية وآدابها في المجلدات ال15 التي صدرت عن الموسوعة الإسلامية والتي تُرجم ستة منها إلى العربية. معه كان هذا الحوار. درست العربية في طهرانوبغدادوفرنسا، حدثنا عن تلك المراحل؟ - درست العربية في طهران في كلية تحمل اسماً غريباً مخيفاً، وقعها صعب على الأذن الإيرانية"المنقول والمعقول"! وهي تسمية تطلق على العلوم الفقهية المنقول والفلسفية المعقول. كنت مرغماً على دراسة هذه اللغة، فالبيئة البرجوازية الإيرانية لم تكن تحبها آنذاك، لكن الأحوال وكذلك العواطف تغيرت إلى حد ما بعد الثورة الإسلامية. لم استطع دراسة الأدب الفارسي كما تمنيت، وكانت دراسة العربية لسنة تخولني التحول إليه. لم أفعل، لقد أحببتها وجذبتني آدابها. حصلت على منحة دراسية في بغداد. لكنني بعد قيام الثورة العراقية، عدت لإتمام دراستي في طهران في الفرع نفسه بعد أن تحول اسمه إلى"الإلهيات والمعارف الإسلامية". بعد نيلي الشهادة توجهت إلى باريس لأدرس الأدب العربي مع المأسوف عليه" شارل بلاّ". كتبت أطروحتين، واحدة منهما نَشرت في تونس، وكانت تحقيقاً لجزء لم ينشر من قبل لمخطوطة عماد الدين الأصفهاني العظيمة"جريدة القصر وجريدة العصر"، وهو الجزء المتعلق بالأندلس. وفي عام 1967 عدت إلى طهران أستاذاً في كلية الإلهيات. كنت على يقين، في ذلك الزمان، من عودتي إلى المكان نفسه. كانت الحياة بسيطة! أما الآن فلا ندري أين سيقودنا المصير! هل تعطينا لمحة عن مؤلفاتك وأبحاثك المتعلقة باللغة العربية وعلاقتها مع الفارسية. - بعد عودتي من فرنسا، كانت ثمة صورة، هي الآن أقل نمطية عن العربي، مرتبطة بالبداوة والصحراء وما إلى ذلك. كان هذا يسبب لي إزعاجاً كبيراً، فحاولت تبيان بعض الجوانب المجهولة في الثقافة العربية القديمة والإسلامية. درست عصور ما قبل الإسلام، ونشرت كتاباً عن دويلاتها، كمملكة الحيرة، وعن الغساسنة والأنباط والتدمريين... ثم ألفت"سبل نفوذ الفارسية في ثقافة عرب الجاهلية ولغتهم"، عن تأثير الفارسية في اللغة والحياة التجارية والأدبية وحتى في المذاهب والأديان في الجاهلية. وحين طبع الكتاب، لم يهتم أحد بقراءته! أما اليوم فالوضع قد تغير، ويستخدمه كثير من الدارسين. لقد قضيت عشرين سنة أدرس الدواوين العربية في الجاهلية لأفتش عن الكلمات الفارسية. ودرست في انكلترا الآرامية التي كانت ضرورية لتحقيق عملي. ومما وجدته أن الفارسية انتقلت إلى العربية من طريق الآرامية وليس مباشرة، وأن معظم الكلمات الفارسية المستخدمة، والتي تجاوز عددها المئة، كانت حول الطعام والموسيقى والعمارة. أحدث مؤلفاتك"الصراع بين الفارسية والعربية"عن تاريخ اللغتين من القرون الإسلامية الأولى وحتى القرن الخامس الهجري، لماذا سميت العلاقة بينهما"صراعاً"؟ - أعتقد انه صراع كبير ما زال مستمراً. اللغة العربية سيطرت على كل المجامع وبخاصة منها البلاط الملكي والمراكز الدينية. فكانت لغة الدواوين والدين والأدب، وباتت الفارسية لا تذكر ولا يهتم لها أحد. وكان سؤالي: أيمكن الإيراني أن يبقى صامتاً أمام دين يحبه وألا يتكلم بلغته التي تعبّر عن ثقافته التي كانت دوماً مبعث فخره؟ ليست في حوزتنا وثائق تاريخية كاملة تعيننا علمياً لمعرفة لغة التحادث آنذاك. كان يجب التفتيش عن الإيرانيين الذين عاشوا في ذلك الزمان واحتفظوا بلغتهم بحيث استطاعت أن تنهض من جديد وتواصل حياتها الإنسانية والأدبية... وما تقول في ادعاء البعض هنا من أن الأدباء والمفكرين في ذلك العصر كانوا مجبرين على التعبير بالعربية في مؤلفاتهم؟ - كانوا يحبون العربية كونها لغة عالمية ومجهزة بكل المصطلحات المطلوبة. لكن مع هذا، وجد من يكتب بالفارسية. فكيف نفسر ذلك؟ الشعر الفارسي يظهر فجأة في القرن الثالث بالأوزان العربية، وفي القرن الرابع بدأت الترجمة من العربية إلى الفارسية. وإذا كانت العربية شائعة، فلماذا ترجمت إلى الفارسية؟ هذا ما درسته في شكل موسع. وما أريد قوله هو أن الفارسية حاولت أن تستعيد ما أخذ منها وترجع إلى الأمكنة التي كانت تحتلها قبل الإسلام، لتعبر مثلاً عن تاريخنا، لقد رجعت لأن حاجة برزت إلى رجوعها ولا سيما لدى العامة. في ذلك العصر، كانت كلمة"العامة"في الفارسية تعبّر عن هؤلاء الذين يتكلمون بالفارسية ولا يتقنون العربية. ثمة من يدعو إلى تنقية الفارسية من الكلمات العربية، فما رأيك؟ - سؤال جميل! أرى هذا غريباً ولا أؤمن به. لو تحدثنا عن نسبة العربية في الفارسية لوجدناها مختلفة بحسب العصور. فمن بداية الإسلام حتى القرن الرابع يمكننا الكلام عن عشرة في المئة. وكلما تقدمنا في الزمان، تكثر الكلمات العربية ولا سيما في المسائل الإسلامية. نجد في القرن الخامس مثلاً كتاباً تصل نسبة العربية فيه إلى خمسين في المئة، وآخر لا تتعدى فيه الأربعة في المئة الشاهنامة للفردوسي. في شكل عام، كان التأثر بالعربية شديداً، واستخدامها يشكل نوعاً من التمايز، وكان يستخدم السجع والتعابير غير الشائعة منها لئلا يفهم الآخرون. كانت العربية نموذجاً يقلد. وفي العصر المغولي ازداد عدد الكلمات العربية ازدياداً غريباً بحيث وصلت نسبتها إلى 90 في المئة، ما يجعل الاستعانة بالمعاجم أمراً لا مفر منه لفهم كتب حملة المغول في البلاد الإيرانية. وكيف ينظر إلى هذا النثر؟ عربياً أم فارسياً؟ - إن التراكيب اللغوية والنحو هي فارسية، أما المصطلحات فعربية. كان مرضاً أصيبوا به. لكن يجب أن أضيف أن الناس لم يكتبوا أدباً غريباً فقط! بل كان ثمة أدب إيراني يستخدم كلمات عربية مفهومة في الفارسية. سعدي مثلا يمتلئ نثره بالكلمات العربية، لكن كتبه تعد من أجمل كتب النثر الفارسي. وفي العهد الصفوي وصلت نسبة العربية في النثر الفارسي إلى خمسين في المئة وهي نسبة معقولة. ما نسبة الكلمات العربية في الفارسية حالياً؟ وهل تعتبر التأثير المتبادل بين اللغتين غير متوازن ماضياً وحاضراً؟ - النسبة بحسب الحقل، ولا يمكن التحديد، وقد تتراوح بين 20 و60 في المئة. حين يتعلق الأمر بالثقافة الإيرانية القديمة، لا يتجاوز عدد الكلمات العربية العشرة في المئة. أما المواضيع الدينية فتضطر الكاتب إلى استخدام مفردات أكثر. إن تأثير العربية في الفارسية غريب ومستمر، وقد يكون مزعجاً في الكثير من الأحيان. في البداية كان هذا التأثير نافعاً، واستفادت الفارسية من العربية وخصوصاً عند التعبير عن موضوعات دينية لا معادل لمصطلحاتها بالفارسية. كما أثرت العربية على نحو جميل في النثر والشعر. ولكن حين تبدأ العربية بالتأثير خارج مجال المفردات، أي في النحو، يغدو الوضع مختلفاً... ما وضع اللغة العربية الآن في إيران؟ من يدرسها ولمَ؟، وما هي المؤسسات القائمة حولها؟ - حين دخلت الكلية كان هناك فرع واحد و15 طالباً، واليوم ليس في وسعي إعطاء إحصاء دقيق عن عدد الأقسام العربية الموجودة في إيران. هناك أقسام للدراسات العليا حتى في المدن الصغيرة. إنها موضة منتشرة جداً! وأعتقد أن لا فائدة في هذه الأمواج التي تهجم على الجامعات الإيرانية، فالبطالة تنتظرها! كيف تفسر هذا الإقبال على دراسة العربية؟ - إنه أمر شائع في إيران وينطبق على فروع أخرى، يدرسون ولا يدرون لماذا! أيضاً وضع الإسلام بعد الثورة واعتبار العربية لغة ثانية وربما الأولى في الدستور الإيراني. الحكومة تساعد في إنشاء الفروع العربية أكثر من غيرها. في بداية الأمر كانت الدراسات العربية نافعة، وكان الخريجون يجدون العمل فوراً، واليوم تغير الحال. الإيرانيون يدرسون العربية في شكل لم نتعود عليه. قبل الثورة كانت ثمة جريدة واحدة بالعربية، واليوم هناك عشرة ربما! أضحت العربية هنا لغة فاعلة حية نسمعها في التلفزيون والراديو وتدرَّس في المدارس. لكن الطلاب يطرحون تساؤلات عن جدوى دراستها، وبعضهم يقول:"حتى العرب نتواصل معهم بالانكليزية!". ثمة إجابات مقنعة وأخرى لا. ما يبرر دراستها هو الدين وأمر آخر مهم يتعلق بضرورة فهم المصطلحات العربية الموجودة في الأدب الفارسي القديم والجديد. لكن تعلم لغة أخرى هو تواصل مع شعب آخر وربما يقضي على تنافر موجود.. - نحتاج إلى سنين أخرى للقضاء على التنافر. ينظر كثر من الإيرانيين إلى القضية من زاوية خاصة ترى أن حضارة كبرى كانت لدينا والعرب قضوا عليها وغيروا كل شيء! آخرون يرون في العربية لغة الدين ويرغبون الحديث بها وفهمها، وهؤلاء لا يؤمنون بالحضارة الفارسية ويعتبرونها شيئاً ضاراً بالنسبة الى العقائد الإسلامية. وبين الجماعتين، غالبية لا تهتم بالأمر، تقرأ القرآن وتصلّي بالعربية ولا تفهمها. لا أرى عيباً في ذلك، فهو أمر سائد في كل البلاد الإسلامية ولا علاقة له باللسانيات بل بالفلسفة الإنسانية الاجتماعية. أيضاً، فإن توجهنا نحو البلاد العربية للتعلم متعلق بنسبة تقدمها في الحقول الفنية والعلمية. وللأسف نعيش وإخواننا العرب ظروفاً متشابهة ومستوى علمياً واحداً، ما يجعلنا نتوجه، كما يفعلون، نحو البلدان المتقدمة للحصول على المعرفة. يكمن الحوار أن يكون ثقافياً وألا يقتصر على النواحي العلمية وهذا لا يتم من دون لغة. - نعم يجب أن نتعلم كثيراً من الأدب العربي لقراءة الأدب الفارسي. ولفهم شاعرنا الكبير مولوي الذي يستخدم القرآن والحديث يجب أن نتعرف على منهل الحديث، وحتى شاعرنا الكبير سعدي يشير إلى معان لا توجد إلا في ديوان المتنبي. الأدب العربي كان موجوداً وما زال في ثقافتنا والإيرانيون يهتمون بالجانب القديم من الأدب العربي. كما أن الاتصال بالأوروبيين تم بواسطة الأتراك والعرب، وتم التعرف على الحضارة الغربية عبر الترجمات العربية، فقد ترجمت بعض الروائع الأدبية الأوروبية إلى الفارسية من العربية. ما مدى انتشار الأدب العربي الحديث في إيران؟ - ترجم كثير من روايات جرجي زيدان، وأيضاً معظم أعمال جبران الذي لا أعتبر كتاباته من الروائع. لديكم أيضاً نجيب محفوظ وطه حسين، ونرجو أن يكثر مثل هؤلاء، فآثار محفوظ تماثل الآثار الأوروبية الخالدة وقد قرأت كل أعماله. ومع الأسف منعت ترجمته في إيران، إلا أنني سمعت عن وجود ترجمات لأحد عشر كتاباً من كتبه ولا أدري في الحقيقة كيف تم الأمر!