دائماً يستعمل الناس كلمة (التسامح)، وخصوصاً عند تناولهم للمسائل الدينية، وبعضهم يضعها محل التيسير أو الاعتدال، والبعض يقصد بها ضد (العنت أو التشديد)، وكل ذلك صحيح بعض الشيء، ويحتمل المزيد. «إن الدين يسر»، نص حديث سيد الوجود، صلى الله عليه وسلم، رواه الإمام النسائي وغيره، عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، مؤكداً به، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، على ما بعده في الحديث ذاته: «ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه»، وآمراً أمته ببقية ما ذكره: «فسددوا وقاربوا..». ومن هذا النص وغيره من جنسه مثل حديث «إن الله رفيق، يحب الرفق في الأمر كله»، الذي رواه الإمام البخاري، وقصة وروده تحكيها أم المؤمنين، السيدة عائشة، رضي الله عنها، تقول «استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: قلت: وعليكم»؛ ومنه علم ويعلم، وبالضرورة، أن الدين والتسامح صنوان، خصوصاً في الأزمنة المليئة بالمشقات، أو الإحراجات. العالم والفقيه التونسي المشهور، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، يقول في كتاب (مقاصد الشريعة الإسلامية) وهو يتناول مقاصد التشريع العامة: «السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها»، ويضيف أن «السماحة: سهولة المعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل، وهي راجعة إلى معنى الاعتدال، والعدل، والتوسط». والعلماء يؤكدون أن التسامح مظهر للسماحة من حيث هذه المعاني، ولا أتصور حصول التسامح إلا من نفس متأدبة، فطرها الله تعالى على السلوك الحسن، أو تمت تنشئتها على ذلك.. النفس المتسامحة، أو كما ذكرت المتأدبة، نفس تعرف قيمة العفو، وسعة الصدر، والإعراض عن الجاهلين، والصبر على الاستفزازيين، وهي نفس تعرف قيمة الأسوة الحسنة، والأسى المحفزة، وهي نفس تعرف قيمة الانشغال بهداية ذاتها، وترك هداية الناس لرب الناس، وهي نفس تعرف قيمة الإيثار والبذل والعطاء، وهي نفس تعرف أن المصادمات بين العقول لا تنتج إلا الشر، وهي نفس تشهد دائماً رحمة الله في كل اختلافات الأقدار، وتعرف قيمة الأدب، وخصوصاً مع الله، سبحانه وتعالى. أختم بأن مما يثير بعض الحسرة في القلب أن ميزان التفاضل بين الناس تحول مما هو في المعارف القديمة، إلى موازين جديدة عجيبة، نابعة من تغير الأحوال والأخلاق والتعاملات، وصارت «الريادة» لمن خرج عن جادة الطريق، بدعوى أن الزمن تغير، ظاناً أنه بمحاربته للماضي، وباتهامه لمن سبقه بالجهل، وباستعدائه أقوياء الدنيا، سينال الحظوة والمكانة، مع أن الأمان كل الأمان هو في ترك الناس تعيش وفق وجهات نظرها الموزونة، وعدم امتحانها في تفاصيلها وفرعياتها، والإيمان بأن التنوع والتعدد ضامن لإشاعة فضيلة التسامح.