عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيقٌ يحبٌ الرفق في الأمر كله» متفق عليه. وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه) رواه مسلم. وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانهُ، ولا ينزعُ من شيءٍ إلا شانهُ» رواه مسلم. قال ابن القيم - رحمه الله - في نونيته المشهورة: وهو الرفيق يحب أهل الرفق بل يعطيهم بالرفق كل أمان من أسمائه سبحانه الرفيق وهو مأخوذ من الرفق الذي هو التأني في الأمور والتدرج فيها، وضده العنف الذي هو الأخذ فيها بشدة واستعجال.. والتفسير لهذا الاسم الكريم مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الله رفيق يحب الرفق, وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف « فالله تعالى رفيق في أفعاله حيث خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئاً فشيئاً بحسب حكمته، مع أنه قادر على خلقها دفعة واحدة وفي لحظة واحدة.. وهو سبحانه رفيق في أمره ونهيه فلا يأخذ عباده بالتكاليف الشاقة مرة واحدة، بل يتدرج معهم من حال إلى حال حتى تألفها نفوسهم وتأنس إليها طباعهم، كما فعل ذلك سبحانه في فريضة الصيام وفي تحريم الخمر والربا ونحوهما... فالمتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة، اتباعاً لسنن الله في الكون واقتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تتيسر له الأمور وتذلل الصعاب, لا سيما إذا كان ممن يتصدى لدعوة الناس إلى الحق فإنه مضطر إلى استشعار اللين والرفق كما قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. فرسالتي إلى دعاة الحق والفضيلة وإلى كل ناصح مرشد أقول: رفقاً بالمنصوحين وقولاً ليناً، فإن في ذلك مدعاة لقبول نصحكم والاهتمام به... فهلا تأملتم خطاب الله جل وعلا لكليمه موسى وأخيه هارون عليهما السلام في قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، أي اذهبا إلى فرعون الطاغية الذي جاوز الحد في كفره وطغيانه وظلمه وعدوانه «فقولا له قولاً ليناً» أي: سهلاً لطيفاً برفق ولين وأدب في اللفظ، من دون فحش ولا صلف ولا غلظة في المقال أو فظاظة في الأفعال «لعله» بسبب القول اللين «يتذكر» ما ينفعه فيأتيه «أو يخشى» ما يضره فيتركه، فإن القول اللين داع لذلك والقول الغليظ منفر عن صاحبه، وقد فسر القول اللين في قوله تعالى: {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}، فإن في هذا الكلام من لطف القول وسهولته وعدم بشاعته ما لا يخفى على المتأمل فإنه أتى ب «هل» الدالة على العرض والمشاورة والتي لا يشمئز منها أحد ودعاه إلى التزكي والتطهر من الأدناس التي أصلها التطهر عن الشرك, الذي يقبله عاقل سليم ولم يقل «أزكيك» بل قال «تزكى» أنت بنفسك، ثم دعاه إلى سبيل ربه الذي رباه وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة التي ينبغي مقابلتها بشكرها وذكرها فقال: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}. (فإن كان أسلوب الخطاب هذا لذلك الطاغية فكيف بإخوانكم المسلمين). أيضاً رسالتي إلى كل أب وأم أنعم الله عليهما بالبنين والبنات وإلى كل معلم ومعلمة أنعم الله عليهما بذلك العلم أقول: رفقاً بأولادكم من بنين وبنات، فإنكم برفقكم وحسن أسلوبكم تصلون إلى ما لا يمكن أن تصلوا إليه بالشدة والعنف، فالتربية بالرفق والإحسان أكثر نفعاً وأشد قبولاً في نفوس هؤلاء الأولاد ليكون ذلك أدعى لقبولهم ومحبتهم للخير وأهله، فالعنف معهم دون سبب بين لا يولد إلا العنف والكراهية والانفعالات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه». أيضاً رسالتي إلى كل ابن كريم أقول: أيها الابن المبارك: رفقاً بوالديك وقولاً ليناً. ألم تشعر يوماً ما بقسوتك في التعامل معهما وهما اللذان سهرا على تربيتك والإحسان إليك، فإذا كان الرفق مطلوب مع الآخرين فهو مع الوالدين أوجب وأولى بل إن التأفف في وجههما إثم وقطيعة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فأحسن صحبتهما وارفق بهما فإنهما باب عظيم موصل إلى الجنة بإذن الله تعالى. أيها الابن المبارك: هل سمعت بوصية الله تعالى لك في قوله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. إنها وصية الله لك من فوق سبع سماوات... من كتاب الله تعالى... هاهما بجوارك قد بدأ المشيب إليهما واحدودب منهما الظهر وارتعشت الأطراف، لا يقومان إلا بصعوبة ولا يجلسان إلا بمشقة أنهكتهما الأمراض وزارتهما الأسقام، فعليك بالبر والإحسان ولا تبخل عليهما بمالك وجهدك وحسن خلقك وطيب معشرك، بارك الله فيك ووفقك لكل خير. وإليكم أيها الأحبة نماذج من رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم: النموذج الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهود: السام عليكم (الموت عليكم)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليكم، قالت عائشة رضي الله عنها: السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مهلاً يا عائشة!! عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش)، فقالت عائشة رضي الله عنها: أو لم تسمع ما قالوا، فقال الرسول صلى عليه وسلم: (أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم «فيستجاب لي ولا يستجاب لهم») رواه البخاري. النموذج الثاني: عن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يصيحون به: مه مه (أي أترك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرفوه دعوه (لا تقطعوا بوله)، فيترك الصحابة الأعرابي يقضي بوله، ثم دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال له: إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه دلواً من الماء. فقال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد تحجرت واسعاً) «أي ضيقت واسعاً» متفق عليه... فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقاً وأحسنهم تعليماً وأرفق الخلق بالخلق، صلوات الله وسلامه عليه. فعلى الإنسان أن يكون رفيقاً في جميع شؤونه، رفيقاً في معاملة أهله، وفي معاملة إخوانه، وفي معاملة أصدقائه، وفي معاملة عامة الناس يرفق بهم، فإن الله عزّ وجلَّ رفيقٌ يحب الرفق. ولهذا فإن الإنسان إذا عامل الناس بالرفق يجد لذة وانشراحاً، وإذا عاملهم بالشدة والعنف ندم، ثم قال ليتني لم أفعل، لكن بعد أن يفوت الأوان، أما إذا عاملهم بالرفق واللين والأناة انشرح صدره، ولم يندم على شيء فعله. وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح وحسن الأخلاق والآداب.