أنهى الحزب الجمهوري مؤتمره بتثبيت مرشحه ميت رومني لمبارزة باراك أوباما الذي سيثبت مرشحا للديموقراطيين في مؤتمرهم المقرر ما بين 4 و6 سبتمبر القادم. ومنذ مطلع يوليو الماضي وحتى الأسبوع الاخير من أغسطس تظهر النظرة العامة على استطلاعات الرأي العام أن الفارق بين المرشحين يضيق مع بقاء أوباما في المقدمة. بيد أن معدل اتساع هذا الفارق يمضي ببطء شديد على نحو يطرح سؤالا حول ما إذا كان المرشح الجمهوري سيتمكن من "قلب" المعادلة فيما بقي حتى السادس من نوفمبر أي حتى موعد التصويت العام. لعبة الاستطلاعات فقد أظهر استطلاع أجرته وكالة اسوشييتد برس أن من يؤيدون أوباما عند المقارنة بينه وبين رومني هم 49% مقابل النسبة ذاتها لمن يؤيدون رومني عند المقارنة بينه وبين أوباما. وكانت النسبة قبل شهرين هي 53% لأوباما مقابل 46% لرومني وقبل شهر واحد أصبحت 49% لأوباما مقابل 48%. إلا أن الاستطلاع ذاته أوضح على الرغم من ذلك أن من سيصوتون لأوباما تصل نسبتهم إلى 47% مقابل 46% أي أن الرئيس يتقدم على منافسه بنقطة واحدة بعد أن كان متقدما عليه بنقطتين ونصف النقطة قبل شهر واحد. وفي المقابل فإن مؤسسة جالوب الشهيرة للاستطلاعات تعطي الموقع الأول لرومني وليس لأوباما. إذ حصل المرشح الجمهوري على 47% مقابل 45% لأوباما. وكانت نقطة انقلاب المنحنى بالنسبة لرومني وأوباما هي منتصف الشهر أي تقريبا في الوقت الذي اختير فيه بول رايان للموقع الثاني على البطاقة الجمهورية. وأهمية هذا التحول لا تكمن فقط في حدوثه ولكنها تكمن أساسا في توقيته. ذلك أن اختيار رايان أدى إلى تعديل الخيارات في صفوف الأصوليين المسيحيين المتشددين ويعني ذلك أن من انتقلوا إلى معسكر رومني هم سكان ما يسمى بحزام الإنجيل الذين باتوا أكثر اطمئنانا للبطاقة الجمهورية بعد اختيار عضو مجلس النواب عن ولاية ويسكونسون نائبا له. نظرة الشك أساسها ديني وكان هؤلاء المتشددون ينظرون إلى رومني نظرة شك عميق. فقد سبق أن طبق المرشح الجمهوري برنامجا يخلط بين المواقف الليبرالية والمواقف المحافظة حين كان حاكما لولاية ماستشوستس. فضلا عن ذلك فإن رومني لم يتبن أبدا مواقف الأصوليين في قضايا مثل حق الإجهاض ومعاملة المثليين في القوات المسلحة. كما أنه اقترح برنامجا للتأمين الصحي في ولاية ماستشوستس يشبه في جوانب كثيرة برنامج أوباما الذي يناصبه الأصوليون العداء. غير أن السبب الأهم على الإطلاق هو أن رومني ينتمي إلى طائفة المورمون التي يعتبرها الأصوليون مارقة عن الكنيسة المسيحية. وكانت تلك الأسباب مجتمعة تضع الأصوليين في مربع السلبية تجاه السباق الرئاسي برمته. فمن المستحيل أن توافق هذه الطائفة على التصويت لأوباما. كما أنها لم تكن تشعر بأي التزام خاص تجاه رومني. إلى أن اختار رومني بول رايان الذي يعد مقربا للغاية من هذا التيار وهو الأمر الذي وضعه في الموقع الثاني على البطاقة الجمهورية على أي حال. وهكذا فإن التحول الذي طرأ في أرقام استطلاع جالوب تصبح واضحة من حيث تغيير اتجاهها على نحو مفاجئ مع الإعلان عن اختيار رايان. ويعني ذلك أن المرشحين كانا إلى ما قبل اختيار رايان يسيران على مسافة متقاربة مع تقدم أوباما بعض الشيء. بيد أن تحرك تلك الكتلة الكبيرة من الناخبين أدى إلى تغيير الاتجاه. ويميل كثيرون هنا في الولاياتالمتحدة إلى اعتبار موقف الأصوليين "غير مكتمل" بعد. ذلك أن آثار اختيار رايان لم تنضج تماما حتى الآن. بعبارة أخرى من الممكن أن ينتقل آخرون من الأصوليين إلى معسكر رومني في الأسابيع المقبلة. من يحول اتجاه الريح؟ ويرجع ذلك إلى طبيعة ما يحدث في الانتخابات الأميركية عادة. ذلك أن الاتفاقات تحدث مع قادة الكتل الانتخابية الكبيرة نسبيا في لحظة. إلا أن من الضروري إفساح بعض الوقت حتى يتسنى لهؤلاء القادة أن يتحركوا بفعالية في صفوف قواعدهم لتحويل اتجاه الريح. وفي حالة الأصوليين سيتعين على القادة أن يقدموا شروحا مستفيضة للقواعد لمساعدتها على "ابتلاع" رومني على نحو أو آخر. ذلك أن تلك القواعد لا تكن أي مشاعر ودية تجاه المرشح الجمهوري فيما تشعر بكراهية عميقة تجاه المرشح الديموقراطي. وفي استطلاع آخر لمؤسسة راسموسن تبين أن رومني يتقدم على أوباما بنقطتين مئويتين إذ حصل أوباما على 44% مقابل 46% لمنافسه الجمهوري. ويتسق ذلك مع نتائج الاستطلاعات التي أجرتها المؤسسة ذاتها خلال يوليو إلا أنه يختلف عن استطلاعات شهر مايو التي كانت تضع أوباما في المقدمة خلال النصف الأول من ذلك الشهر وتضع المرشحين في نفس المستوى خلال النصف الثاني. وبصفة عامة فإن استطلاع راسمونسن يوضح أن الافتراض القائل بأن الوقت ليس في صالح الرئيس هو افتراض صحيح على أي حال. ويتأكد ذلك من أخذ المتوسط العام لكل الاستطلاعات التي أجريت في النصف الثاني من أغسطس على المستوى القومي الأميركي بصفة شاملة. فهذا المتوسط العام يعطي أوباما 47% مقابل 45,5% لرومني. وفيما يبدو ذلك مطمئنا للديموقراطيين من الوجهة الظاهرية فإنه في حقيقة الأمر يدعو للقلق البالغ في صفوف حملة باراك أوباما. ذلك أن المتوسط العام لاستطلاعات 13 أغسطس مثلا أعطى أوباما 47,7% مقابل 43,7% لرومني. أي أن الفارق تقلص خلال أسبوع واحد من 4 نقاط مئوية إلى نقطة ونصف النقطة. وإذا مضت الأمور على هذا المنوال فإن من الممكن حقا أن يقلب رومني الطاولة في وجه أوباما في يوم التصويت. فتش عن المترددين وتوضح أي دراسة متأنية لأرقام الاستطلاعات أن المشكلة في تلك الاستطلاعات التي جرت مبكرا نسبيا هي أنها أكدت أن حصة كبيرة من الناخبين الأميركيين ينتمون إلى فئة المترددين. ومع اختيار رايان ظهر "الهيكل العظمي" للسباق على حقيقته. فقد دفع اختيار رايان بالقضايا الاقتصادية أمام أعين الناخبين مباشرة. ذلك أن رايان وبصرف النظر عن مواقفه من القضايا الاجتماعية "يتكون" من برنامج اقتصادي في المقام الأول. إن "هوية" هذا المرشح الشاب التي اكتسبها من خلال عضويته في الكونجرس نائبا عن ولاية ويسكونسون هي برنامج بالغ التعقيد والتفصيل لإصلاح حال الميزانية الأميركية التي تعاني الآن من عجز لم يسبق أن سجلته ميزانية دولة في التاريخ ولا حتى الميزانية الأميركية خلال أزمة عام 1929. ويقول رايان باختصار إن مشكلة الاقتصاد الأميركي تتلخص في كلمة واحدة : الحكومة، أو بالأحرى الإنفاق الحكومي. فبدلا من زيادة الإنفاق ومن ثم زيادة الضرائب على الشرائح العليا من الدخل وعلى الاستثمارات الرأسمالية للشركات لتعويض العجز في الميزانية فإن على الحكومة أن تفعل العكس أي أن تخفض الضرائب لأن تخفيض الضرائب سيؤدي إلى زيادة الاستثمار ومن ثم إقامة المزيد من الشركات والأنشطة الاقتصادية ومن ثم نمو شركات إضافية على هامش خدمة الشركات الجديدة وتوظيف ملايين الأميركيين. وحيث إن أولئك جميعا سيدفعون ضرائب ناجمة عن دخولهم ورواتبهم الجديدة، وحيث إن الاقتصاد سيشهد قفزة ديناميكية بصفة عامة فإن عائد الحكومة من الضرائب سيزداد على نحو يعوض ما خفضته من ضرائب ويزيد من دخل الميزانية العامة لتعويض العجز الحالي. وخلال ذلك يتعين على الحكومة أن تخفض برامج الإنفاق الاجتماعي حتى تجعل من مهمة جسر الهزة العميقة في أرقامها قابلة للعبور. ثقب الميزانية والعلاج وعلى الرغم من أن مصداقية ما يقوله المرشح على الموقع الثاني في البطاقة الجمهورية يمكن أن تتعرض للتساؤل وهو ما يفعله خبراء أميركيون اقتصاديون فإنه يقول ببساطة إن هذا الحل تمت تجربته بنجاح كبير حين تسلم الرئيس رونالد ريجان الميزانية الفيدرالية من الرئيس جيمي كارتر كان في تلك الميزانية ثقب كبير أيضا. فقد تمكن ريجان من تضييق الهوة بصورة ملموسة إلا أنها لن تردم تماما في أي وقت من رئاسته التي امتدت على مدار فتريتن في الثمانينيات. ويهاجم الديموقراطيون هذا المنطق بقولهم إن ما ساعد ريجان لم يكن الزيادة في الاستثمار ولكن تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الولاياتالمتحدة بعد أن تمكن من سن تشريعات مواتية لتلك الاستثمارات. فضلا عن ذلك فإنهم يقولون إن الميزانية الفيدرالية لم تتمكن أبدا من جسر الهوة التي تفصل بين الدخل والإنفاق إلا في عهد رئيس ديموقراطي هو بيل كلينتون وليس في عهد أي رئيس جمهوري. ويضيفون إلى ذلك كله أن المنطق الذي يعكسه بول رايان في رؤيته للميزانية سيلحق ضررا كبيرا بالفقراء وذوي الدخول المحدودة ممن يعتمدون على البرامج الاجتماعية الممولة فيدرالية والمتعلقة بمجالات التعليم والصحة والمرافق والبطالة وأن عجز هذه الميزانية جاء أصلا من قرارات طائشة اتخذها رئيس جمهوري هو جورج بوش. ويعني ذلك أن اختيار رايان وضع الأمور حيث يرغب الناخب الأميركي في وضعها أي في دائرة قضايا حياته اليومية وهمومه المالية والاقتصادية. ويقول أنصار رومني إن أوباما حكم البلاد لمدة 4 سنوات وإنه حتى لو كان بوش هو السبب فإن ما قال أوباما إنه العلاج لم يسفر إلا عن استفحال المرض. ويرد الديموقراطيون بقولهم إن قضايا الركود أو التباطؤ هي قضايا دورية وموضوعية لا يمكن تجاوزها بقرار رئاسي. إلا أن الناخب الأميركي بلغ حدا من السخط على معاناته اليومية لا يشجع على التفاعل مع أي تفسيرات معقدة. ففي نظر ذلك الناخب لقد جرب الرئيس باراك أوباما علاجه ولم يأت بنتيجة وقد آن الأوان لتجربة علاج آخر. النظام الانتخابي..ظالم وفيما توضح الاستطلاعات أن المترددين يتجهون إلى رومني بنسبة أكبر مما يتجهون بها إلى أوباما فإن القضية لن تحسم عبر "ترموميتر" الناخبين بصفة عامة. ذلك أن النظام الانتخابي الأميركي تأسس على أسلوب ليس له مثيل وقد لا يكون ديموقراطيا تماما هو أسلوب المجمع الانتخابي. ويتكون هذا المجمع من ممثلين عن كل ولاية يختلف عددهم بحسب اختلاف عدد سكان الولايات. فالولاية الأكثر كثافة سكانية لها عدد أكبر من الممثلين في المجمع من الولاية الأقل كثافة سكانية. وتقضي القاعدة بأن كل أصوات ولاية ما في المجمع الانتخابي ستذهب إلى المرشح الذي يفوز بأغلب أصوات الولاية حتى لو كان الفارق صوتا واحدا. وكانت النتيجة قبل انعقاد مؤتمر الجمهوريين 221 صوتا لأوباما في المجمع الانتخابي فيما لرومني 191 صوتا. إلا أن هذه الأرقام تتغير بسرعة إذا ما ذهبت أغلبية أصوات ولاية غنية بأصواتها في المجمع الانتخابي ولو كانت تلك الأغلبية بصوت واحد إلى رومني. إذا ستنتقل أصوات الولاية كلها دون استثناء واحد من مربع أوباما إلى مربع رومني. ويعني ذلك في نهاية المطاف أن الأمر بات يتعلق الآن بالولايات التي لم تحسم خياراتها بصورة نهائية بعد. ذلك أن هناك ولايات ديموقراطية دائما مثل نيويورك وكاليفورنيا وولايات أخرى جمهورية دائما مثل تكساس وأوكلاهوما وآريزونا ومسيسبي ووست فيرجينيا ونبراسكا وساوث كارولينا. والولايات التي لم تحسم خياراتها بعد هي فلوريدا ونورث كارولينا وأوهايو وميتشيجن وأيوا وكولورادو ونيفادا ونيو هامبشاير وويسكنسون وفيرجينيا. وثمة ولايات من تلك التي تحسب في هذه القائمة تميل إلى هذه الكفة أو تلك في الاستطلاعات الحالية. ولا يعتبر وضعها في القائمة على أنها لا تفضل أيا من المرشحين على الآخر ولكنه يعني أنها يمكن أن تغير تفضيلها هذا لأنه غير "تاريخي" إن جاز التعبير أي أنه ليس مؤسسا على تراث طويل من التصويت لهذا الحزب أو ذاك في انتخابات الرئاسة السابقة. فولاية مثل ويسكنسون تميل الآن إلى أوباما بفارق 4 نقاط مئوية عن رومني. غير أن اختيار "ابن الولاية" بول رايان نائبا لرومني ضيق الهامش الذي كان في منتصف أغسطس 5 نقاط وفي أول أغسطس 6 نقاط وفي يونيو 9 نقاط. وولاية مثل فيرجينيا يغلب على سكانها المزيج بين المزارعين والقرويين الذين يصوتون عادة للمرشح الجمهوري وأصحاب الياقات البيضاء الذين يصوتون للمرشح الديموقراطي. بيد أن أغلبية أصحاب الياقات البيضاء يدعمون الآن رومني بفارق كبير عن أوباما بسبب ما لحق بهم من أضرار جراء الأزمة الاقتصادية. الخريطة الانتخابية الأميركية حاليا تشير إلى تفوق أوباما. ولكنها تشير أيضا إلى تقدم رومني بسرعة كبيرة. والسؤال الآن هو: هل تكفي المدة المتبقية لضمان تقدم سيارة رومني على سيارة أوباما؟. الإجابة عن هذا السؤال هي التي ستعلن في حقيقة الأمر نتيجة تلك الانتخابات.