يقول لي خيالي المريض المصاب بفوبيا الحركيين المتطرفين: إن حياة أيّ جماعة سياسية مؤدلجة وقوتها وتأثيرها، مرهونة بنجاحها الدائم في تجنيد أعضاء جدد، بمعنى أن الاستقطاب هو الإكسير الذي يطيل عقود حياتها، وهو ما يجعلها قادرة على إرهاب خصومها بالكثرة، وهو ضامن تمددها وتغلغلها. هذه القاعدة التي فرضها عليّ خيالي المريض، تجعل عقلي الموسوس يفكر في البدائل الجديدة التي تستخدمها هذه الجماعات في تجنيد أتباع جدد، بعد إيقاف المخيمات الدعوية، وتقليص المناشط المدرسية والجامعية التي كانت المنابع والوقود، وبعد أن تنبه كثير من الغافلين إلى طرائق هذه الجماعات في صناعة الأتباع (التجنيد). تاريخيّا، نستطيع -بدون عناء- أن نجيب عن السؤال السهل: كيف كانت هذه الجماعات تجنّد أعضاءها؟ ذلك أن الطرائق الماضية باتت معروفة، وقد فصّل الراصدون والباحثون القول فيها، وكشف عن الخفي منها بعض الخارجين على هذه الجماعات، فضلا عن أن بعضها انتهى بسبب تحولات طرأت على المجتمعات أو على الدول، أو بسبب استحداث أساليب أحدث وأسهل وأكثر خفاء وأسرع نجاحا. السؤال الأهم متعلق بالطرائق الجديدة، التي تجاوزت لجان المدارس، ورحلاتها، وأنشطتها، ومسابقاتها، وجوائزها، ومخيماتها، كما تجاوزت دورات تطوير الذات، ودورات بناء القادة، ودورات البرمجة اللغوية العصبية، إلى أساليب خفية جدا، حتى إنها قد تخفى على الخبراء الأمنيين، ويبلغ خفاؤها حدود أن يصبح بعض المسؤولين التنفيذيين من ذوي النفوذ والقرار والقدرة على الدعم، شركاء في عملية التجنيد دون أن يعلموا أنهم شركاء، ودون أن يساورهم أي شك في أنهم باتوا جسورا حديدية صلبة يعبرها قطار التجنيد الحركي بثقة كاملة. يصر خيالي المريض على أن الطرائق الجديدة تقوم -في البدء- على استحداث بعض التنازلات التي تؤمن نجاح عملية التجنيد وسريتها، وهذه التنازلات تتناقض مع الطرائق القديمة المتمحورة حول «الدعوة» التي لم تكن في حقيقتها «دعوة» بالمفهوم الشائع، وإنما هي وسيلة استقطاب ذات آليات محددة، وأدبيات موحدة، وذات خطاب واحد في إطاره العام بوصفه خطابا، وهي (أعني الدعوة) كانت تستلزم تكريس آراء فقهية محددة، تكريسا يصل إلى فرضها فرضا، وإخفاء الآراء المختلفة عنها، وليس ذلك لرجحان واضح، أو إجماع معروف، وإنما لأن تلك الآراء الفقهية -السائدة أصلا عند فقهاء المؤسسة الدينية الرسمية في بلادنا- تسهم في التزام الأعضاء الجدد بمعايير الجماعة وأصولها، تلك المعايير والأصول المعدودة في مؤلفات مؤسسي هذه الجماعات ومنظريها، وأخص منها معايير جماعة الإخوان وأصولها العشرين التي وضعها حسن البنا، ثم شاعت عند الجماعات المشابهة التي ولدت من رحم جماعة الإخوان، وهي جبهات ونصرات وتشكيلات جهادية معروفة، حتى إنها موجودة عند الجماعات الدموية التي خرجت على جماعة الإخوان، لكنها لم تخرج من عباءتها الفكرية، كداعش وغيرها. ويضيف خيالي المريض: هذه التنازلات تتخذ أكثر من صورة، منها: ظهور المجنِّد في مظهر المنفتح على الأفكار والسلوكيات، والمتقبّل للأفكار، أو ظهوره بمظهر الوطني الغيور، أو ظهوره بمظهر خفيف الظل الذي يوزع الطرائف و«النكات» في كل اجتماع أو مناسبة، أو بمظهر المهتم بالفن المتابع لجديد محمد عبده وعبادي الجوهر، مازجا ذلك كله بحرصه الشديد على أن يكون -دائما- في صورة صاحب الإمكانات الهائلة والمعارف الواسعة والقدرات الذاتية الممتازة، وهو -على الأرجح- يدعيها ولا يمتلكها، لينال بادعائها الثقة، ويضمن وجوده في كل عمل وفي كل لجنة، وليمرر على المسؤولين والمجتمع مبادراته الملساء التي باطنها التجنيد والاختراق والحيلولة والاحتلال، وظاهرها العمل الوطني أو المجتمعي أو الإنساني. وهكذا، فإنه بالمزج بين: التنازلات، وادعاء القدرات، يبعد عنه شبهة الانتماء إلى جماعة سياسية سرية متطرفة، وعابرة للقارات، ولا يمكن أن يكون بناء الأوطان المستقرة القائمة من أهدافها. يلحظ خيالي المريض أن التنازلات الجديدة -في غالبها- تنازلات فقهية، من مثل: أن يتنازل المجنِّد المخلص عن شرطه السابق المتمثل في رفض وجود الموسيقا في المناسبات العامة، أو يتخلى عن رفضه القديم لوجود المرأة في الفضاء العام، ووسائل الإعلام، ولجان العمل العام، والعمل التطوعي، أو يتنازل عن فرض بدائله الإحلالية التي كان يحرص عليها الحرص كله، فيتنازل -مثلا- عن شرط وجود نشيد إسلامي ومنشدين في الاحتفالات العامة، واحتفالات التخرج، واحتفالات اختتام المناشط المدرسية والجامعية، وعلى الرغم من أن مثل هذا الإحلال الممنهج للأناشيد عوضا عن الموسيقا، ثابت في أسلوب عمل جماعته، إلا أن الضرورات المستجدة أباحت له التنازل عنه، مستعيضا عنه -أمام قادته- بالنتائج وتحقيق الأهداف.بعد أن ينجح المجنِّد في الإقناع بذاته بوصفه منفتحا ذا قدرات كبيرة، يبدأ في استثمار خبراته الطويلة التي كان يبهر بها رواد المخيمات الدعوية، ويبتكر مبادرات براقة، مقدّما إيّاها على أطباق تقنية جاذبة، ومن خلال لغة إدارية حديثة ومنظمة، تبدأ ب:«الرؤية، الفكرة، الأهداف، المستهدفون»، وفي أثنائها: «المنحنى، الشراكة، الهيكل، إدارة الأداء، إدارة الجودة، التكيف الهيكلي، الحاجات المتغيرة». يوسوس لي خيالي المريض بأن ظاهر هذه المبادرات الخادعة بريء وجاذب وإيجابي كظاهر المخيمات والدروس واللقاءات والجمعيات التطوعية والمناشط المدرسية التي أنجبت -من قبل- آلاف القتلة، وآلاف الكافرين بالأوطان. هذا الظاهر الجميل يجعل المبادرات الحركية الحربائية التجنيدية تمر على مكاتب المسؤولين بسلام تؤكده الموافقة والاعتماد، فتحصل المبادرة بذلك على الغطاء والدعم والتأييد من الرسميين ومن المواطنين ومن وسائل الإعلام، ورجال المال والأعمال، ليبدأ المجنِّد الحركي في مهمته الرئيسة (مبادرته الحقيقية)، ويتوجه بمبادرته نحو الشباب الأذكياء والموهوبين، من: المتفوقين دراسيا، والرياضيين، والفنانين، والمبدعين في التقنية، ومشهوري وسائل التواصل، وأصحاب الطموحات، والراغبين في العمل التطوعي، وغيرهم، ثم يتخذ منهم فريق عمل، ويصير يجتمع بهم في كل مكان، ويتواصل معهم عبر كل الوسائل، مدعيا حبهم وصداقتهم، ومانحا إياهم الفرصة تلو الفرصة، وهم إليها تواقون، وبشخصيته معجبون....... يكتفي خيالي المريض بهذا القدر، لأن بقية القصة معروفة، إلا أنه أضاف: لو تغيرت الأوضاع السياسية المحيطة، فإن المجنِّد قد يكافئ بعض هؤلاء الشباب -على جهودهم في أعمال مبادراته- برحلة إلى تركيا ذات الطبيعة الساحرة، وهناك يصادفون مؤتمرا شبابيا فيحضرونه ليستفيدوا، ثم يلتقون هناك ببعض الأحبة.... يختم خيالي المريض وساوسه بالقول: تأملوا كل ما يحدث حولكم من أعمال يقوم عليها مخيماتيون سابقون، لتجدوها تتفق مع طرائق التجنيد القديمة في الأهداف والمستهدفين والخطاب، وتختلف عنها في الآليات والطرائق فقط.