تقوم المذاهب الإسلامية كلها على منطلقات سياسية. بل هي “أحزاب” سياسية بالمعنى الدقيق لتماثلها في البنية مع الأحزاب السياسية. ومن أهم خصائص هذه البنية تحويلُ الاختيارات الفقهية إلى برامج هدفها استقطاب الناس وتأطيرهم في جماعات يُحدَّد لكل منها هوية وحيدة، مع التأكيد على الاختلافات بينها وبين المذاهب الأخرى. وتقوم على رأس كل جماعة من هذه الجماعات قياداتٌ تتمتع بنفوذ واضح يعود عليها بكثير من المنافع المادية والمزايا المعنوية. وتعمل هذه القيادات، لضمان تماسك هذه الجماعات، على استمرار حالة الاستنفار والخوف بين أتباعها لدفعهم إلى الشعور بانسداد الأفق الذي لا منجى منه إلا باللجوء إلى هذه الأحزاب المذهبية للاحتماء بها. وهذا هو السبب الذي يمنع هذه المذاهب من التنازل عن أي مظهر من مظاهر “هويتها” من أجل التوصل إلى أرضية مشتركة مع الآخرين، أو الاعتراف بأنهم على شيء من الحق. إذ يعني هذا الاعتراف أن تفقد هذه القيادات بعض امتيازاتها، وربما يكون ذلك وسيلة لانفضاض بعض الأتباع عنها. وتشهد التجارب السابقة العديدة ل”الحوار بين المذاهب” أن زعماءها لا يوفون بما يتعهدون به حين تبادر القيادات السياسية العربية والإسلامية إلى الدعوة إلى تجسير الهوة بين المذاهب الإسلامية. ويعود فشل مؤتمرات “التقريب” بين المذاهب الإسلامية إلى أن زعاماتها المتنفذة تعرف يقينا أن تحقيق المصالحة بينها سيقضي على الخوف والاستنفار اللذين تستمد منهما سلطتها، ولشعورها بأنها ستخسر كثيرا من المنافع المادية والمزايا المعنوية التي تتمتع بها. والدليل الأوضح على رغبة هذه الزعامات المذهبية في إدامة تسلطها على المسلمين انتشار القنوات الفضائية المذهبية. وهي التي لا تسعى إلى “الإرشاد الديني” بل إلى التهوين من المذاهب الأخرى، و”فضح” أسسها “الواهية”، و”تبيين” خطرها على الإسلام والمسلمين. وتنافي هذه الحزبيةُ الادعاءَ بأن هذه المذاهب تقوم على اختيار المسلم لقناعاته المذهبية بوعي. ومما يبشر بخير أن هناك عددا كبيرا من المسلمين، الذين ينتمون اسميا لتلك المذاهب، يؤسسون قناعاتهم الدينية على التأمل الفردي في الآراء المختلفة والموازنة بين الأدلة. ولا يخضع هؤلاء “الأحرار” لأوليات الأحزاب المذهبية مما يجعلهم لا يبدون أي عداء للمنتمين إلى المذاهب الأخرى. ولمقاومة هذا التسلط الذي دام قرونا يجب أن يستنقذ المسلمون أنفسَهم من هيمنة هذه الأحزاب التي لا تأبه إلا بمصالحها والحرص على تجنيدهم في جبهات متناحرة. ومن الطرق التي يمكن بها تحقيق ذلك: 1 فك الارتباط بين “الحوار” وهذه الزعامات، وأن يتحاور “المسلمون” بعيدا عن هيمنتها، بدلا من ذلك. 2 تحويل الدراسات الدينية في الجامعات الدينية التي تتبع المذاهب كلها إلى دراسات أكاديمية تتناول القضايا الدينية بطرق علمية تقصد إلى المعرفة (كما ذكرت في المقال السابق). وسينشأ عن هذا تخريج علماء حقيقيين لا دعاة للمذاهب، أو متشوفين للزعامة والتنفُّذ كما يحدث الآن. 3 أن يسعى “أفراد” المسلمين إلى الاعتماد على أنفسهم في التفقه في الإسلام بعيدا عن اختيارات الزعامات الحزبية الدينية. وهذا سهل الآن بسبب انتشار التعليم وانحسار الأمية التي كانت سببا رئيسا في انقياد المسلمين انقيادا أعمى وراء تلك الزعامات. فيستطيع المسلم الآن الرجوع بنفسه إلى مصادر المعرفة الدينية بعد أن ظلت قرونا من قبيل “المضنون به على غير أهله”. ولمعرفة الزعامات الدينية بخطر تحرر المسلمين من قبضتها تؤكد دائما أنه ليس بمقدور المسلم العادي غير المتخصص في الدراسات الشرعية الوصول بنفسه إلى رأي يطمئن إليه عن علاقته بربه وبالناس، ولابد له أن يظل عالة عليها. 4 ومما يديم التنافر بين المسلمين تأكيد هذه الزعامات بأنهم مقصورون على هوية مفردة أساسها “المذهب”. وكنت عرضت لهذا الموضوع في مقالات سابقة. وقد ناقش الفيلسوف الهندي الأصل، أمارتيا سين، هذه المعضلة بتوسُّع في ثقافات مختلفة، ومنها الثقافة العربية الإسلامية، وبيَّن أن الانحصار في هوية واحدة إفقار للحياة الإنسانية، ويمثل أهم سبب لإثارة العداوات بين الناس (الهوية والعنف: وَهْمُ القَدَر. ترجمة حمزة المزيني، جداول للنشر، 2012م). ويناقض انحصار المسلم المعاصر في هوية واحدة ما يشهد به الواقع من انتمائه إلى هويات كثيرة تربطه كل واحدة منها بجماعة بشرية مختلفة. وتعمل هذه الارتباطات على تكثير المشتركات بينه وبين الآخرين مما يقضي على عدد كبير من أسباب التنافر والعداء. 5 ويغفل قصر الإنسان على هوية واحدة عن الطبيعة البشرية التي تقوم على أن التنوع هو القاعدة لا الاستثناء، وهو ما يعني أن حصر الناس في “مذاهب” مغلقة يخالف تلك الطبيعة. وقد ناقش ديفيد إيجلمان في كتابه الذي ترجمتُه وسينشر قريبا هذا التنوع الطبيعي بالتفصيل. ومن ذلك قوله: إن “ثمة أسبابا كثيرة لفهم الكيفية التي تُوجِّه بها الأدمغةُ السلوكَ. فنحن نكتشف، على طول أيِّ محوَرٍ نقيس به البشر، أن ثمة توزيعًا واسعًا، سواء للتعاطف، أو للذكاء، أو للقدرة على السباحة، أو للعبقرية منذ الولادة لعزف آلة “الكمان” أو لعب الشطرنج. فلم يُخلق الناس متساوون. ومع أنه كثيرًا ما يُظن بأن هذا التنوُّعَ قضيةٌ يَحسُن تجاهلُها، إلا أنها الوسيلةُ التي تستخدمها عمليةُ التطور. إذ تُحاول الطبيعةُ، في كل جيل، تجريبَ عدد كبير من التنوعات بِقَدْر عددِ التنوعات التي تولِّدها، على طول الأبعاد المتوفرة كلِّها – ثم تَقوم المنتجاتُ التي تتلاءم بأفضل شكل مع البيئة بإعادة إنتاج نفسها”. وقوله: “فأنت لا تختار طبيعتَك ولا تربيتَك، وأقل من ذلك بكثير أن تختار تفاعلَهما المعقَّد. فأنت تَرثُ خطةً وراثية وتولَد في عالَمٍ لا خيار لك فيه طوال أعوامِ نشأتِك الأولى. وهذا هو السبب الذي يَجعل الناسَ يأتون إلى الدنيا مزوَّدين بطرق مختلفة جدًّا لرؤية العالَم، وبشخصيات غير متماثلة، وبقدرات متنوعة لاتخاذ القرارات”. وهذا ما ينشأ عنه اختلاف الأفكار بين البشر واختلاف اختياراتهم تبعا لذلك. وخلاصة القول إن إشاعة السلام بين المسلمين توجب فك هذا الحصار الذي يفرضه المتنفذون في المذاهب الإسلامية كلها عليهم، وإتاحة الحرية لهم ليختاروا بأنفسهم ما يقتنعون به حتى لا يستمرون ضحايا للإيحاء بأن هناك من يتربص بهم إن لم يكونوا منضوين تحت ألوية هذه الزعامات. كما يوجب القضاء على التنازع بين المذاهب الاعتراف بالإنسان المسلم بوصفه إنسانا وحسب، وتحريره من التبعية التلقائية وتنمية ثقته بنفسه.