بات الرئيس الأميركي السادس والأربعين جو بايدن ليلته الأولى في البيت الأبيض، بعدما تمكن من إلحاق هزيمة انتخابية مشهودة بخصمه الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي حاول بشتى الوسائل تجديد ولايته أربع سنوات إضافية، لكنه عاد أمس مواطناً أميركياً «عادياً» بعد رئاسة استثنائية. مشى بايدن، وهو من أعتق السياسيين الأميركيين وأحد أكثرهم تمرساً وتصميماً، على سنوات الجمر الأخيرة ليكون أكبر الرؤساء الأميركيين سناً في هذا المنصب، بعدما أطلق سلسلة من الوعود من أجل «إعادة أميركا إلى طبيعتها»، منطلقاً من اللحظة الأولى في جهد للسيطرة على تفشي فيروس «كوفيد – 19» الذي فتك بأكثر من 400 ألف شخص، وأصاب ما لا يقل عن 24 مليوناً في الولاياتالمتحدة وحدها. وآثر الرئيس الجديد الذي خاض تجربة شخصية حافلة بالصعاب والمآسي زرع 400 ألف من الأعلام الأميركية وأعلام الولايات ال50 في «الناشيونال مول»، كتذكار لهؤلاء الضحايا، عوض فتح المكان كالعادة لمشاركة عشرات الآلاف من الأميركيين بهذه المناسبة كل أربع سنوات احتفاء بالتقاليد الديمقراطية العريقة في هذه البلاد. ولعل الرئيس السابق دونالد ترمب كان محقاً في التصويب بصورة خاصة على «التهديد الأكبر» الذي يمكن أن يواجهه خلال الانتخابات: جو بايدن، الذي تمكن بالفعل ليس فقط من نيل بطاقة الحزب الديمقراطي، بل من الوقوف بصلابة أمام منافسه أمام ملايين الأميركيين، في الحملات الانتخابية، وفي الانتخابات نفسها وما تلاها من تحديات المعركة الضارية للوصول إلى البيت الأبيض. لأسباب عديدة أبرزها المآسي والأحزان التي عاناها في عائلته، ولكن أيضاً من خبرته المديدة في الحياة السياسية الأميركية، لم تكن المواجهة مع ترمب هي الأكثر صعوبة في ذاكرة بايدن الذي تحدث بصراحة عن نشأته المتواضعة. تلعثم أحياناً، وتعثر في كلمات معينة، لكنه نجح في إيصال رسالته. وشبّه الكاتب المعروف في مجلة «نيويوركر» ناثان هيلير ردود بايدن على ترمب ب«صورة شخص يسافر فوق متحدرات المياه البيضاء، ويقفز من صخرة زلقة إلى صخرة زلقة، ويحاول ألا يفقد توازنه ويسقط». سبق للأميركيين أن انتخبوا السيناتور السابق عن ولاية ديلاوير نائباً للرئيس باراك أوباما عام 2008، ثم أعيد انتخابه عام 2012، ونشأ بايدن البالغ من العمر الآن 78 عاماً في ولاية بنسلفانيا. وعمل والده جوزيف في تنظيف الأفران وبيع السيارات المستعملة. ينسب جو بايدن فضل نجاحه إلى والده ووالدته كاثرين يوجينيا فينيغان، لأنهما غرسا فيه «الصلابة والعمل الجاد والمثابرة». – ثاني رئيس كاثوليكي وعندما انتقلت العائلة إلى ولاية ديلاوير عام 1955، صار أولاد الحي يسخرون منه لأنه عانى التلعثم. لكن ابن ال13 عاماً تغلب على هذه المشكلة بحفظ فقرات طويلة من الشعر وتلاوتها بصوت عالٍ أمام المرآة. ثم التحق بأكاديمية أرشمير المرموقة. ورغم اضطراره إلى العمل في غسل نوافذ المدرسة وإزالة الأعشاب الضارة من الحدائق لمساعدة أسرته، بقي بايدن يحلم لفترة طويلة بالالتحاق في الجامعة. وبعد تخرجه من جامعة أرشمير عام 1961 التحق مجدداً بجامعة ديلاوير القريبة، حيث درس التاريخ والعلوم السياسية ولعب كرة القدم. واعترف لاحقاً أنه أمضى العامين الأولين في الكلية مهتماً بكرة القدم وبالفتيات والحفلات أكثر من الصفوف الأكاديمية. غير أنه طور اهتماماً خاصاً بالسياسة، مدفوعاً جزئياً بالتنصيب الملهم للرئيس جون إف. كينيدي عام 1961. وعندما ذهب في عطلة الربيع إلى جزر الباهاماس، التقى بايدن بطالبة في جامعة سيراكيوز تدعى نيليا هانتر، وبكلماته الخاصة، «وقع في حبها من النظرة الأولى». وبتشجيع من حبه الجديد، تفرغ لدراسته بشكل كامل وتلقى قبولاً في كلية الحقوق بجامعة سيراكيوز بعد تخرجه من ديلاوير عام 1965، ثم تزوج بايدن وهانتر في العام التالي. بعد تخرجه من كلية الحقوق، انتقل بايدن إلى مدينة ويلمنغتون بولاية ديلاوير ليبدأ العمل في مكتب محاماة. وهناك صار عضواً ناشطاً في الحزب الديمقراطي. وانتخب عام 1970 لمجلس مقاطعة نيو كاسل. بالإضافة إلى حياته المهنية الحافلة، أنجب بايدن ثلاثة أطفال: جوزيف الثالث وهانتر ونعومي. وعام 1972 وعندما بلغ 29 عاماً شجعه الحزب الديمقراطي على خوض الانتخابات ضد السيناتور الجمهوري كاليب بوغز. وعلى رغم شعبية الأخير، أدار بايدن حملة دؤوبة ساعده فيها كل أفراد أسرته. وفي نهاية المطاف، حقق بايدن فوزاً مفاجئاً ليصير خامس أصغر عضو في مجلس الشيوخ الأميركي. في الوقت التي كانت فيه أحلام جو بايدن المهنية تتحقق، صدمته مأساة مدمرة. حين كانت زوجته بايدن وأطفاله الثلاثة يتسوقون لشراء شجرة عيد الميلاد عام 1972، تعرضوا لحادث سيارة مروع أدى إلى مقتل زوجته وابنته وإصابة ابنيه بو وهانتر بجروح بالغة. ورغم كل شيء قرر بايدن احترام التزامه بتمثيل ديلاوير في مجلس الشيوخ. وتزوج بايدن لمرة ثانية من جيل بايدن عام 1977، فأنجب منها أشلي. وعام 2015، عانى بايدن مأساة ثانية عندما توفي ابنه بو عن عمر يناهز 46 عاماً، بعد صراع مع مرض السرطان. بين عامي 1973 و2009 سجل بايدن مسيرة مهنية متميزة في مجلس الشيوخ، فحظي بالاحترام حين عمل كرئيس للجنة العلاقات الخارجية. وعُرف بايدن طيلة مسيرته السياسية بقدرته على العمل مع الجمهوريين لتمرير مشاريع قانون مشتركة. ويراهن بايدن اليوم على العمل المشترك وعلاقات الصداقة مع زملائه الجمهوريين، والتي عززها خلال العقود الماضية، لتحقيق أهدافه التشريعية بعد دخوله البيت الأبيض. – الطموحات الرئاسية وبعدما أثبت نفسه كواحد من أبرز المشرعين الديمقراطيين في واشنطن، قرر بايدن الترشح لرئاسة الولاياتالمتحدة عام 1987، واضطر إلى الانسحاب من الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، بعد ظهور تقارير تفيد بأنه سرق جزءاً من خطاب. وبعد 20 عاماً من محاولته الرئاسية الفاشلة الأولى، قرر بايدن الترشح مجدداً عام 2007، وفشل أمام الزخم الذي أتت به هيلاري كلينتون وباراك أوباما. وعلى الرغم من ذلك، اختاره أوباما نائباً له. وهزما سوية المرشحين الجمهوريين جون ماكين وسارة بالين. وأعيد انتخاب أوباما وبايدن عام 2012 في مواجهة الجمهوريين ميت رومني وبول راين. كرئيس، يريد بايدن أن يعيد نهج الولاياتالمتحدة إلى معايير ما قبل ترمب الذي وقع على نحو 200 أمر تنفيذي منذ عام 2017، واتخذت إدارته أكثر من 400 إجراء تنفيذي بشأن الهجرة وحدها. كما عيّن مئات القضاة في محاكم عبر البلاد. وتعهد التراجع عن انسحاب ترمب من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ والتخفيضات الضريبية لعام 2017 وحظر السفر الذي يستهدف معظم الدول ذات الغالبية المسلمة. نجح بايدن في المواجهة مع ترمب. ومع ذلك، فإن الأميركيين الذين يواجهون تحديات كثيرة، يترقبون ما سيفعله الرئيس الجديد. عبّر بايدن ببطء كل الصعوبات المختلفة، متجاوزاً العثرات والمطبات. الآن يقف أمام تحديات لا سابق لها منذ عهد الرئيس الأميركي الثاني والثلاثين فرنكلين روزفلت بعد حقبة الكساد الكبير في الثلاثينات من القرن الماضي، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية في الأربعينات. ملايين الأميركيين شاخصون إليه، وإلى نائبة الرئيس كامالا هاريس، وبقية المسؤولين الكبار في إدارتهما.