محور الأخلاق في شخصية «المثقف» عند الكثيرين، بالخصوص في خطابنا السعودي لا يرتبط بتاريخ المعرفة أو تقاليدها، قدر ارتباطه بالوعظ الديني من جهة، وبالتربية العشائرية وعاداتها وتقاليدها من جهة أخرى. يمكن أن أصوغ هذه الملاحظة - والتي تبقى في طور الملاحظة لا أقل ولا أكثر، وتحتاج للمزيد من تسليط الدراسات السسيولوجية والانثروبولوجية على الشخصية السعودية في أطوارها المتعددة من تاريخها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والديني، وذلك وفق محددات معينة في تعريف الشخصية نظريا وما يتصل به من ضبط لصياغة المفهوم - وفق السؤال التالي: لماذا نرى الكثير من الأفكار التي يحتدم النقاش حولها لا تؤسس لأعراف وتقاليد لحوار معرفي تكون بمثابة خارطة طريق يسترشد بها جيل بعد جيل من المثقفين والأدباء والسياسيين؟ قبل أن أعطي الأسباب التي تمنع مثل هكذا تأسيس، ينبغي أن أوضح للقارئ الكريم: ما المقصود بالأعراف والتقاليد (الأخلاق) التي تتأسس على الحوارات المعرفية المعول عليها هاهنا؟ كل معرفة ينتجها العقل الإنساني لا تكون بمعزل عن السلوك. أي أن المعارف التي ننتجها بواسطة تفكرنا تدخل في صراع أو جدل مع سلوكنا الذي هو بدوره نتاج تاريخ من التربية والتنشئة الاجتماعية والثقافية في بيئة معينة، وهذا الصراع أو الجدل يكون على هيئة تأثير وتأثر. هل تطغى الفكرة على السلوك أو العكس، رغم أنه لا توجد حدود فاصلة أو واضحة وضوحا تاما بين الاثنين؟ مثال: تجد شخصا اعتقد بفكرة معينة وقام يدافع عنها، وتاليا اكتشف خطأ اعتقاده، تراه يعلن على الملأ تخليه عنها دون تردد. وهناك شخص آخر بدل أن يعلن عن خطأه تتلبسه الأوهام بأنه لا يخطئ، وأنه يملك اليقين المطلق فيما ينتجه تفكيره. لذا الموقف أمام الخطأ واحد بينما ردات الفعل محكومة بسلوك لكن حين يدور الكلام عن المجتمع فإن العلاقات القائمة على الحوار هي محل الصراع بين الاثنين (السلوك والفكرة)، فإذا لم تكن هناك أعراف وتقاليد (من قبيل الاحترام المتبادل، التركيز على النظر للفكرة دون قائلها، التواضع، الاعتراف بالخطأ، السيطرة على الدوافع والأهواء التي تريد استخدام المعرفة خارج نطاقها) قد تتولد من خلال تراكم الخبرات في الاتصال والحوار بين الأفراد (المثقف، الطبيب، الأستاذ الجامعي، رجل الدين، المعلم، التاجر، الطلاب) بحيث تكون بمثابة سلطة تحكم المتحاورين، فإن أي حوار يجري بين طرفين أو بين مجموعات متباينة في التفكير والتوجهات فإنه سرعان ما ينزلق إلى صراع سلوكيات، يبتعد عن أصل الحوار بالقدر الذي يقترب فيه كل فرد إلى حكم السلوك التربوي. لذا غياب هذه الأعراف والتقاليد كما أدعي هنا هو يجعلنا نبحث عن الأسباب التي طرحناها في السؤال السابق. وعليه يمكن إرجاع بعض هذا الغياب للأسباب الموالية: أولا- جامعاتنا لم تؤسس لمثل هذه الأعراف والتقاليد لا على مستوى الأستاذ الجامعي ولا على مستوى الطلاب. فالحرم الجامعي عبر تاريخه لم يكن بؤرة حراك معرفي فكري جدلي تمس أبرز القضايا الاجتماعية كما هي مرحلة التحديث في بداية السبعينيات، أو كما هي الحداثة والتقليد في الثمانينيات، أو أزمة الإسلام السياسي والهويات الوطنية في مطلع التسعينيات. هذه كلها قضايا أثرت بصورة أو بأخرى على مسار تفكير أبناء البلد وفي كل هذه المراحل كانت الجامعة وكادرها الأكاديمي في موات سريري. ثانيا- كان خطاب التربية الدينية في جانبها الوعظي الأخلاقي هو الأكثر سلطة على حياة الفرد منذ تنشئته. وما أعنيه بالجانب الوعظي هو التشدد في الأسلوب التربوي الذي من مظاهره التلقين. لذا كان خطابا ممانعا في إرساء مثل هذه التقاليد نقلا عن البوم