لماذا تتقلص مساحة التفكير عند الفرد المسلم حين يريد التزود بمعرفة معاصرة تساعده على تخطي أزمة واقعه الثقافية، والدينية، والنفسية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية؟ السؤال يفترض مسبقاً أن ثقافة المجتمع المسلم في حياته اليومية توجد فيها حالة من الخيارات المحدودة للمعرفة، فقلة التنوع المرتبطة بها، من أفكار وفلسفات وعلوم إنسانية، ودينية وعلمية، تفرض عليه طريقين: إما أن يكون تراثياً، أي ملتزماً في سلوكه ومبادئه بكل ما يقرره السلف الصالح، دون أن يفضي به ذلك بالضرورة إلى التشدد أو التعصب أو التطرف، أو يكون معاصراً في طريقة تفكيره أو متبعاً نهجاً معولماً (وليس علمانياً) في سلوكه ومبادئه وقناعاته دون أن يفضي به ذلك إلى التغرب أو التغريب. ظلت الثقافة العربية منذ عصر النهضة مأسورة إلى هذين الطريقين، تارة يتحول أحدهما ضد الآخر، فيشن الهجوم عليه باسم المحافظة على الهوية الإسلامية، والخصوصية الدينية، وتارة أخرى يحدث العكس فيشن الآخر الهجوم باسم التقدم في ركب الحضارة، والابتعاد عن مظاهر التخلف في الحياة. الانقلاب والانقلاب المضاد هو السمة العامة التي طبعت وعي المثقف، وجعلت من خطابه مجرد سجال، يعيد ما تم طرحه، في الجهة المقابلة. ولكن بطريقة مضادة، في التوجه والرؤى والتصورات. ويمكن إرجاع كل تيارات الإسلام السياسي، وجميع التيارات الأخرى، من قومية وماركسية، ووجودية وليبرالية، في الثقافة العربية، إلى هذين الطريقين، بحيث أصبح تأثيرهما يمتد إلى قطاعات عديدة وسط مؤسسات المجتمع، التي تأتي على رأسها مؤسسات التعليم بمراحلها المختلفة. لذلك جاءت فرضيتنا التي انبنت على السؤال السابق وفق هذه الحالة، فالمسلم اليوم لا يرى أمامه خيارات أخرى، خارج ما يقترحه عليه مؤيدو التراث أو مؤيدو المعاصرة، حين يريد أن يوازن بين احتياجاته المادية من جهة، والروحية من جهة أخرى. قد يقول قائل: ثمة تنوع معرفي في كلا الطريقين، لا يمكن إغفاله، فالفكر الغربي بجميع تياراته وأفكاره ضارب أطنابه في أرض الثقافة العربية، وامتداداته في تربته لا تخفى على أحد، فكيف يمكن القول إن المساحات محدودة، والخيارات متقلصة؟ صحيح هذا الكلام. لكن ما هو صحيح أيضاً هو أن ما يسميه السؤال تنوعاً معرفياً سرعان ما تحول على خلفية التجاذبات السياسية التي مرت بها المنطقة إلى وعي سياسي شديد الأدلجة، بحيث لم يستقر هذا التنوع في فضاء ثقافي عربي، يكون فيه الفرد المسلم قادراً على التواصل مع الأفكار الأخرى دون ضغوط سياسية أو دينية توجهه حيثما شاءت أو أرادت. ولم يتحول إلى برامج تربوية وتعليمية، يحقق على الأقل تغيراً في مستوى التفكير، سواء على مستوى الخطاب السياسي أو الديني. وعليه استقر هذا التنوع في ذهن عامة الناس إما بوصفه استلاباً لشخصية المسلم، أو بوصفه استبداداً مقروناً بمظاهر حديثة ومعاصرة. هذه النتيجة أدت إلى الكثير من المغالطات، على مستوى فهم ثقافة الآخر، فقد جرى في أوساط الناس ترويج أن الثقافة الغربية تعيش أزمة روحية بفعل افتقارها إلى الثقافة الروحية بجانب تقدمها المادي. (نعم تعيش أزمة روحية. لكن ليس بسبب الافتقار للقيم الروحية المسيحية، والتنوع المعرفي، بل لأسباب أخرى ليس هنا محل الكلام فيها. لذلك نحن ننوه هنا لتلمس الفرق بين سبب الأزمة ونتيجتها في الذهنية العربية). إذن هذا النوع من الترويج لا يمكن النظر إليه، إلا من زاوية الإسقاط الذي يحمل ثقافة غيره ما هو ملتصق بثقافته بالأساس، ويقولها ما لم تقله أو تتبناه. ولو أخذنا مسألة واحدة من المسائل الكبرى التي تمثل أزمة حقيقية معاصرة في حياة الشخص، وهي مسألة التوفيق بين التدين والتعقل، فإن ما يقترحه الفكر الغربي من خلال حقل فلسفة الدين، على الفرد المسيحي في الغرب، يفوق ما يقترحه الفكر الإسلامي على الفرد المسلم، بل يفوقه بمراحل متطورة، من الخيارات المتنوعة معرفياً لفك مثل هذه المسألة. يذكر المفكر الإيراني مصطفى ملكيان في كتابه «العقلانية والمعنوية» نقلاً عن الأمريكي هانس فراي أنه اقترح خمسة طرق في التوفيق بين التدين والتعقل أو بين المعارف البشرية أو المعارف الدينية التي ترتبط بالوحي. وهذا المقترح عندما نسير به من الطريقة الأولى إلى الخامسة، فإن ثقتنا بالمعارف الإنسانية تقل شيئاً فشيئاً، وبالمقابل تزداد ثقتنا بالمعارف الدينية حتى تستقر في الطريقة الخامسة على كامل هذه الثقة. فالطريقة الأولى يتبنى الإنسان فيها إحدى المدارس المعرفية البشرية من فلسفات، ويقتنع بها ويتخذها منهجاً في حياته، ومن ثم يأتي إلى المعارف الدينية، ويتبنى منها ما يوافق الفلسفة أو الفكر الذي تبناه، ويطرح ما يخالفه. أما الطريقة الثانية، فهي تقلص خيارات الإنسان المسيحي، وتجعله يختار النظم الفكرية أو الفلسفية البشرية بناءً على المساحات المشتركة التي تجمعها مع معارف الدين المسيحي، فكل فلسفة تكون قريبة أكثر من المسيحية، تكون هي الأوفر حظاً في تبنيها من طرف الفرد المتدين. فالبعض من المتألهين اختار الفلسفة الوجودية في شقها الإلهي، وقاس المعارف الدينية عليها. الطريقة الثالثة، تنطلق من نقد الطريقة الثانية، من خلال جانبين: الأول يقول: لا يمكن اتخاذ فلسفة معينة، واعتبارها هي الحق وما عداها باطل، وهي بالأساس معارف بشرية، فيها الصح والخطأ. الجانب الآخر يقول: لا توجد فلسفة منسجمة تمام الانسجام مع نفسها ناهيك عن انسجامها مع المعارف التي ينتجها الوحي، بحيث تكون هي الأقرب للدين. أصحاب هذا الطريق يؤمنون بالحوار قبل كل شيء باعتباره المنظور الأشمل في تقليص الفروقات بين التدين والتعقل، فكلما كان الحوار بين المعارف البشرية والمعارف الدينية متداخلاً وواسعاً وفي جميع الاتجاهات، كان التقارب بينهما أكبر وأمتن. الطريقة الرابعة، هي أيضاً نقد للسابقة، وتنهض على مقولة إن مثل هذا الحوار ليس له وجود على أرض الواقع. لا بد أن نلتزم بما يقوله الدين عن نفسه، ولا يحق لأي فلسفة أن تكون ناطقاً رسمياً باسمه، علينا فقط أن نكون مؤمنين كي نفهم، ثم نعرض الفلسفات البشرية لنرمم ما يتصدع منها. أما أصحاب الطريقة الخامسة، فيمكن وصفهم بالتقليديين الذين يرفضون أي معارف بشرية خارج معرفة الوحي الديني، فهم يكتفون بها، ولا يلتفتون إلى غيرها، مهما تقادم عليها التاريخ أو الزمن.