لم يزل ذوو العلم والمعرفة يفرقون بين "الوعظ والفقه" بما اصطلحوا عليه من جعل كل مصطلح منهما يتناول جزئية من جزئيات العلم، وعلى ذلك دأبوا في مدارسهم وسلوكهم وفي مصنفاتهم وتأليفاتهم العلمية، ولا تخفى تلك الكتب والمؤلفات التي تزخر بها المكتبة الإسلامية، حتى أصبح الانتساب الفقهي هوية لكثير من المسلمين، وليس في ذلك بأس إن قصد به تقديم الفقيه ذاك عن هذا الفقيه لوضوح قدرة استيعابه ودقة استنباطاته، وقد سلك الأئمة قديماً وحديثًا هذا المسلك حتى عُرف ذاك بالإمام فلان "الشافعي" وذاك بالقاضي فلان "المالكي" أو الحنبلي أو الحنفي وكلها تسميات أريد بها تمييز فقه الناس بعضهم عن بعض، وحفظ ما استنبطه السابقون من أدلة الكتاب والسنة، ومراد الجميع هو الأخذ بالحق وغلبة الظن في الاتباع في كثير من المسائل التي وجب أن يُعمل فيها الناظر عقله وغلبة ظنه في اجتهاده أو تقليده، فكثير من أدلة الكتاب والسنة يقع خلاف الفقهاء في مدلولها وليس في كونها أدلة شرعية، فلا يختلف مسلمان في كون أدلة الكتاب والسنة هي الأدلة التي يجب الأخذ بها وجوبًا بني عليه الإيمان (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)، (ومن يعص الله ورسوله فإنّ له نار جهنم). غير أننا نجد خطأ كبيرًا وخلطًا بيِّنا بين "بيان الحكم الفقهي" وبين "وعظ الترغيب في طاعة الله ورسوله والترهيب من المعصية" وهو أمر غريب عن الفقه، إذ إن التحذير من المعصية والتخويف من مشاقة الله ورسوله ومخالفة السنة لم يكن السلف من علماء الأمة وأئمتها يقحمونه في ثنايا خلافاتهم الفقهية، بما يرهب المخالف من إعمال نظره في الأدلة الشرعية ليستنبط ما يمكنه استنباطه منها! وقد جاء في الحديث "ربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه" وهو حثّ وتأكيد على النظر في أدلة الفقه، والاستنباط منها. وقد يكون هذا الموضوع ذا تفرعات كثيرة أعجز عن اختزالها في أسطر، إلا أنني أؤكد على ضرورة فصل الخطاب الوعظي عن تقرير المسائل الفقهية، فالآخذ بالرأي المستنبط من الكتاب والسنة بما درج عليه أئمة الفقه لا يحق لنا أن نخوفه بالنار والعذاب إذا لم يعمل برأينا؛ لأن هذا معناه "منع الخلاف"، وتحجير الحق. فحين يسأل السائل -مثلاً- عن الوضوء من لحم الإبل، فلا جواب أكثر من قول المجيب "المسألة خلافية" وقد أوجب الوضوء فلان وفلان من الأئمة ولم يوجبه الجمهور. ثم نُسمع السائل أحاديث المسألة لعل الله يلقي في قلبه نور الحق فيأخذ من القولين ما يراه، ويتبع من الفريقين من يظن أن الحق فيما رآه. ولا يحق لنا هنا أن نحول المسألة إلى مجلس وعظي نخوف السائل فيه من مخالفة السنة ونتلو آيات التخويف من رد الحق، ونذيل الجواب بضرورة صفاء الطوية والتحذير من خبث السريرة.. و.. و...الخ، لأن الأمر محسوم مسبقًا، والفريقان كلاهما يريد الله ورسوله، وكل ما في الأمر هو أن نضع المسألة في ميزان "نعم" أو "لا" بعد أن نسأل: هل اختلف السلف في هذه المسألة؟ فإن كان الجواب "لا" فالموضع موضع وعظ وترغيب وترهيب، وإن كان الجواب "نعم" أي اختلفوا، فلا موضع مع الخلاف لاتهام نيات الآخرين، حين لا يرون قول المفتي هو الصواب، ولا ضابط - بعد ثبوت الخلاف- يحدد للناظر ما يأخذ به، لا بعدد، ولا بأعلم، ولا بأشهر، غير النظر في أدلة المختلفين واتباع من يراه أقرب للاتباع في هذه المسألة، فقد يكون جمهور العلماء، وأحياناً أخرى قد يكونوا قلة ورأيهم أصوب، وفي مثل هذا الموضع لا يحق للجمهور أن يتهموا مخالفهم بأنه شاق الله ورسوله، وغاية ما يقال "المسألة خلافية" بعيدًا عن تمرير الرأي بالترغيب والترهيب. هذا، والله من وراء القصد. نقلا عن الرياض