لما كانت الأفهام مختلفة بناء على اختلاف ما وهبه الله للناس من عقول، فإنك سترى تلك الخلافات مدونة في كتب الفقه الإسلامي، ولم يكن أحدهم يرى نفسه أولى بالحق من غيره، ولا يخال رأيه أولى بالاتباع من آراء غيره من الفقهاء.. لعله قد مر بك كثيرًا - أخي القارئ - هذ المصطلح، أعني مصطلح «القول الراجح» ونحوه مصطلح «والصحيح من أقوال أهل العلم» وهي مصطلحات حريّة بالمناقشة والتدقيق، لا سيما في مثل هذا الزمن الذي كثر فيه المنتسبون إلى الفقه، وقلّ فيه الرجوع لمصطلحات وفقهيات الأئمة الذين أفنوا أعمارهم وأموالهم وأجسادهم في خدمة الفقه الإسلامي في كل مراحله التكوينية، حتى استقر بأصوله وقواعده وكتبه وأبوابه وفصوله ومسائله. ولما كانت الأفهام مختلفة بناء على اختلاف ما وهبه الله للناس من عقول، فإنك سترى تلك الخلافات مدونة في كتب الفقه الإسلامي، ولم يكن أحدهم يرى نفسه أولى بالحق من غيره، ولا يخال رأيه أولى بالاتباع من آراء غيره من الفقهاء، ولذلك لا تجد في ما نثروه أو نظموه ادعاء وحصر الصواب في مذهب أو في رأي عالم إلا أن يكون ذلك التصحيح والترجيح مقيدًا بعندي، كأن يقول «والصحيح عندي» وغير هذا مما فيه احترام رأي الآخر واحتمالية صوابه، وقد أثر عن الإمام الشافعي - رحمه الله - قوله «قولي صواب ويحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ ويحتمل الصواب»، وهي لغة منيفة كان يتداولها الفقهاء والأئمة لسعة علمهم بقابلية كثيرٍ من أدلة الكتاب والسنة للنظر من عدة زوايا وقدرتها على إعطاء نتائج مختلفة بحسب زمان ومكان الناظر، وهو ما يتميز به فقهنا الإسلامي من مرونة وسماحة لا يعجز عندها المؤهل من استخراج الأحكام لكل ما يبدو للآخرين محدثًا لا ذكر له في فقهيات الأولين. ولعل أقرب الأمثلة هي ما نشاهده في الحرمين «المكي والمدني» من استحداثات عمرانية وتغييرات لزمتها كثرة الناس وتغيير آليات الوصول ونحوها، فنجد كثيرًا من الأحكام قد قعد لها نبينا صلى الله عليه وآله قاعدة «افعل ولا حرج» وحين نشاهد الواقع لا يحتمل حكمًا ما فليس معناه أن الناس غيروا وبدّلوا، بل معناه أن هناك مخرجًا فقهيًا لم يهتد إليه من جمدت نظرته على حروف وجمل لم يُعمل فيها فقهه واستنباطه، وعلى هذا الجمود الفقهي في كثير من مواضع الأحكام العصرية نجد النزاع يشتد بين الحين والآخر، بين فقهاء العصر، وليس ذلك بمستغرب، وإنما الغريب على فقهنا هو مصادرة عقول الآخرين، وتحييد فقهيات كانت سائدة في أزمنة وأمكنة كثيرة، وربما مازالت هي المعمول بها عند فئات وطوائف كثيرة من المسلمين، ولكن يفجؤنا ويقلقنا حين نسمع خطيبًا أو مذيعًا أو داعية يحيل الكلام في مسألة فقهية إلى وعظ يتصدره بتخويف المخالف من نار جهنم، وتصوير صاحب القول الآخر لعامة الناس بأنه مخالف للكتاب والسنة، ويشاقق الله ورسوله، ثم تتلى من على المنابر والمحاريب آيات وقوارع الزجر تحشر المخالف في زاوية المحاربين لدين الله، والمميعين لأحكام الله، وهو الأمر الذي جعل بعض الشباب من أتباع الفقهاء العصريين يتعصبون لهذا السلوك الغريب، ويرفعون راية «القول الواحد» ويسمونه «القول الراجح» بينما لم يقيد هذا الراجح بنظر من؟ وتسمع نبرة تنتصر مثلًا لرواية خالفها جماهير أهل العلم ولكنه يرمي بهذا الخلاف في بحر جهله، ويصور أن من يخالفه هو الشيخ فلان وفلان ممن يعرفهم الناس، تنفيرًا وجهلاً، وفي الحقيقة تجد أن المسألة قد قال بها أئمة والمخالف لهم أئمة آخرون وقد وسع بعضهم بعضًا في هذا الخلاف، وأثنى بعضهم على بعض، غير أن أصحاب هذه الطفرة الادعائية لا يريدون للناس أن تعرف من الفقه إلا ما يعرفونه، ولا يعملون إلا بما يرونه لهم، فصلاح دين العامة بزعمهم قولًا وحالًا هو باتباع الكتاب والسنة على طريقتهم الإقصائية. هذا، والله من وراء القصد. Your browser does not support the video tag.