في عصرنا ظهرت أشياء فكرية وتقنية، تعتبر من النوازل، وكثير منها وسائل، تحتاج إلى تأمل ونظر وموازنة بين منافعها وأضرارها، ولا نص قطعًا من الكتاب والسنة فيها، أو فيما نراه من المخترعات الحديثة، فوجب إعمال العقل في كل الزوايا حالاً ومآلاً.. يتميز علماء الشريعة في النظر في نصوص الكتاب والسنة، ويتفاوتون في مهارة الاستدلال والاستنباط، ومن هنا اختلفت طرائقهم بتفاوت أفهامهم، وزوايا نظرهم، وَأَثْرَوا باختلافهم الفقه الإسلامي بموروث علمي وضعوا فيه خلاصة عقولهم، وكشفوا للناظر فيه عن صفاء أذهانهم، وسلامة صدورهم، وعمق علمهم. وقد أجمعوا على وجوب الأخذ بالكتاب والسنة، وحقيقة تشعب آرائهم يعود إلى حرص كل منهم على اتباع الكتاب والسنة، فأحدهم يرى الرأي ويقول بالمسألة، وهو يعتقد أنه بذل كل وسعه، وأفرغ كل جهده، لإصابة الحق من الكتاب والسنة، وأن ما عمل به أخذٌ بالدليل، وعمل بمقتضى النصوص. ولو حاولنا نقل ما أثر عنهم في ذلك، لما اتسع لذلك كتاب فضلاً عن مقال، ولكن يكفينا الإشارة إلى معرفة كل فرد منهم "قدر نفسه" فلم يدّعِ أحد –على كثرتهم- أن قوله هو "الكتاب والسنة". وقضى زمانهم، واندثرت أجيالهم، وما من أحد جاء بعدهم إلا وانتفع بما أصلوه، واستأنس بما فهموه. إلا أن هناك أقوامًا يريدون أن يتجاوزوا ذلك كله، بادعاءاتٍ هي أقرب للتدليس منها إلى الحقيقة، فيأتي أحدهم إلى مسألةٍ أو إلى فكرة أو نازلة طرأت في المجتمع، فيسابق بصبغها حكمًا شرعيًا، سوّرَه بهالة من التخويف من مخالفته، وأنه حكم الله في المسألة، ولا قول إلا قوله، وليس قوله برأي إنما هو "الكتاب والسنة"! ولا تعد بعد ذلك منه ومن أتباعه، كم ألبسوا الآخرين تهمة "مخالفة الكتاب والسنة" وتجاهلوا حقيقة أن رأيهم لا يعدو عن كونه استنباطًا، إذا ما تجاوزنا هل هو معتبر أو غير معتبر!. وفي عصرنا ظهرت أشياء فكرية وتقنية، تعتبر من النوازل، وكثير منها وسائل، تحتاج إلى تأمل ونظر وموازنة بين منافعها وأضرارها، ولا نص قطعًا من الكتاب والسنة فيها، أو فيما نراه من المخترعات الحديثة، فوجب إعمال العقل في كل الزوايا حالًا ومآلًا، واستحضار النظائر والأشباه ليقول الفقيه "رأينا، هي حلال أو حرام" دون تعدي ما وقف عنده الأولون، وهو يظن أن ممن يخالفه من هو أعلم منه بالكتاب والسنة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في مسألة التصوير من نصوص، واختلف السابقون الأولون في أخذ الأحكام منها، بناءً على تنوعها، ففيها ما يمنع مطلقاً، ومنها ما يبيح أنواعاً من التصوير، كألعاب الطفل، ومنها ما يستثني ما لا يعظمه الناس "إلا رقماً في ثوب". وفي بعض النصوص رؤية النبي صلى الله عليه وآله في منامه لأصناف كثيرة منها، ولم يعد أصلاً من التصوير، لكونه طائف نوم، وهذا كله خلاف قديم، أعملوا فيه أفهامهم، ولم يدع أحد أن فهمه هو "الكتاب والسنة"! فإذا ما أتينا إلى التصوير الرقمي العصري، فإننا نحتاج إلى إلحاقه بذاك التصوير وهنا سنجد الخلاف ولا بد، ثم الخلاف فيما يتفرع من التصوير الرقمي، كالتلفاز، والجوالات، والسينما، وغير ذلك. وقد يرى الفقيه فيها التحريم، لكن من التجاوز أن يجعل رأيه هذا (هو الكتاب والسنة) فيظهر الشعوب المسلمة أنها إن خالفته فهي "مخالفة للكتاب والسنة"! والحقيقة أن بعض الأشياء لم تعد الشعوب ترتاب في ترتب حكمها على استخدامها، إذ هي وسيلة فحسب، فلا يبقى لمنعها مطلقاً أي مسوغ فقهي، ويبقى حكمها دائراً مع استخدامها في الحق أو الباطل، في النفع أو الضر. ومن هذا المنطلق ينبغي لذوي المنابر الدعوية وقف الحملات الترويجية لتخويف ذوي الرأي والإبداع، وترك مهارة تسمية الرأي والاجتهاد" كتاب وسنة"، فالكتاب والسنة هما ديننا، ومن قصد مخالفتهما فلا يبقى له شرف الانتساب إليهما، فضلاً عن تسميته بالفقيه أو العالم، ولكن أحيانًا يسبق الخطأ الصواب، ولا يجد ذو الخطأ مسلكًا للرجوع، فيضطر للمضي تحت أي مسمى، ويغني عن ذلك أن نجعل لنا من أخلاق الأئمة في اختلافهم منهجًا، ونوسع مداركنا الفقهية مجاراة بتوسع العالم كله في كل شيء. هذا، والله من وراء القصد.