سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دعوة لفتح باب الاجتهاد : رسالة مفتوحة إلى علماء الأمة
نشر في الحياة يوم 08 - 01 - 2005

سأقسِّم حديثي إلى ثلاثة أقسام، فأتحدث أولاً عن حقيقة غلق باب الاجتهاد، وثانياً عن ضرورة فتحه، وثالثاً عن كيفية ذلك.
أما عن حقيقة غلق باب الاجتهاد فهناك بالطبع من يجادل فيها ويظن أن هذا الباب لم يغلق أبداً أو أنه قد أعيد فتحه، ولكن منشأ هذا الظن هو عدم دقة التفرقة بين الفتوى والاجتهاد والاعتقاد بإمكان إحياء الاجتهاد وفتح بابه بمجرد إصدار فتاوى تستجيب لهذه المشكلة المعاصرة أو تلك، وإن كنا لا ننكر أهمية هذه الفتاوى بل ندعو فقط إلى تمييزها عن الاجتهاد. ولعل أفضل سبيل لاستيعاب هذا التمييز هو إدراك السبب في تسمية كبار الأئمة مؤسسي المدارس ب"الأئمة المجتهدين"، فما استحقوا هذا اللقب لفتاواهم في الفروع، وإن تميزوا بالتأكيد بغزارة فتاواهم ودقتها، ولكنهم استحقوا هذا الوصف لما أسس عليه كل منهم مدرسته من أصول تميزها عن غيرها، بخاصة في مناهج قراءة النصوص الفردية، أي آيات الأحكام غير المتضافرة و أحاديث الأحكام غير المشهورة أو المتواترة، فإن مناهج قراءة هذه النصوص هي التي ميزت إلى حد كبير كل إمام مجتهد عن غيره، مثل منهج الإمام مالك في قراءة هذه النصوص في ضوء عمل أهل المدينة، وموقف الأحناف من أخبار الآحاد والشروط التي اشترطوها للأخذ بها، وقبول الشافعي الحديث المسند مع مراعاة مبدأ النسخ وغيره، بل إن وجود الأصل نفسه في مدرستين مختلفتين لا يعني بالضرورة أن له نفس المعنى في كلتيهما، فمثلاً مفهوم السنة عند مالك يرتبط أساساً بمفهوم العمل أي السنة العملية بينما هو عند الشافعي مرتبط بمفهوم الحديث أي السنة القولية. فهذه المناهج الأصولية وغيرها هي التي ميزت كل مدرسة عن الأخرى وهي التي يحق لها وحدها أن توصف بالمناهج"الاجتهادية"وحاز بها الأئمة وصف"المجتهدين"وانبثقت فتاواهم في الفروع منها. فالاجتهاد الحق"اجتهاد في أصول الفقه"أو هو"اجتهاد من أصول الفقه"أي ينطلق من الأصول ولا يبتدئ مما انتهت إليه مدارس الفقه في قراءاتها المختلفة للأصول، فهذا هو الاجتهاد الذي هو فعلاً موقوف ومحكم الرتاج، وهو الاجتهاد المطلق بمعنى الاجتهاد المطلق عن التقيد بالمذاهب المعروفة، سواء التقيد بواحد منها، أي الاجتهاد في المذهب، أو التقيد ببعضها أو حتى كلها، أي الاجتهاد الملفق الذي يزعم التحرر من المذاهب وهو مجرد تلفيق بينها. فكل هذه الصور من الاجتهاد على رغم أهميتها العملية يصعب تمييزها عن الفتوى.
إن غلق باب الاجتهاد يعني أنك من حيث ابتدأت بصدد مسألة من المسائل فستصل في نهاية المطاف إلى ما وصلت أو ستصل إليه مدارس الفقه في المسألة نفسها بصورة أو بأخرى، وذلك لأنك لن تستطيع الاستناد لغير أصول فقه هذه المدارس منفردة أو مجتمعة. وهكذا فغلق باب الاجتهاد أمر واقع وما زال هذا الباب موصداً عصياً على رغم بعض الدقات الخفيفة الأثر. أما الناحية التاريخية البحتة فلا تهمنا هنا ولا يجدينا تحديد التاريخ الذي أقفل فيه هذا الباب فعلاً أو هوية من أمر أو أفتى بقفله. إن ما يجب أن ندركه أن الاجتهاد المطلق قد توقف بعد أن تأسست المدارس الكبرى وتبلور فقهها، وأن هذا التوقف كان أمراً طبيعياً في حينه وظل كذلك ألف سنة أو زهاءها، فلم يكن ثمة مجال لأية إضافات جوهرية إلى فقه الأئمة العظام. وحتى لو جادل البعض، من قبيل المشاحة في الاصطلاح، في حقيقة غلق باب الاجتهاد أو في مفهوم الاجتهاد نفسه، فإن هذا المفهوم في التحليل الأخير مجرد مقاربة لمسألة التجديد، وما عبارات"غلق"و"فتح"و"باب"و"اجتهاد"سوى تعابير ومصطلحات أرجو ألا يتشبث بها البعض ليلهينا عن الحقيقة الأساسية وهي حقيقة أنه لم تظهر أية مدرسة في الفقه يؤبه لها بعد المدارس الكبرى، مما يعني أننا ما زلنا ننطلق من أصول هذه المدارس مجتمعة أو فرادى وأن فتاوانا تفتأ تدور في فلكها حتى إن سمينا هذه الفتاوى اجتهاداً.
فإذا استيقنّا من حقيقة غلق باب الاجتهاد، أو على الأقل حقيقة أن أصول الفقه، بخاصة مناهج قراءة النصوص الفردية، لم يطرأ عليها تجديد يضيف إليها أية إضافة فعلية بعد عصر الأئمة المجتهدين، فإننا نأتي إلى القسم الثاني من حديثنا، وهو ضرورة فتح باب الاجتهاد. وهذه الضرورة ناشئة عن الفوضى الفكرية التي توشك أن تلتقمنا بعد أن أصبحنا نتخلى شيئاً فشيئاً عن الفقه المذهبي. فلا يخفى على أحد أن الفقه المذهبي قد أصبح في طريقه إلى الزوال، فعلى الصعيد الفردي يتلاشى شيئاً فشيئاً التعبّد على مذهب معين، وعلى صعيد الفتيا والتقنين تختفي يوماً بعد يوم الفتاوى المؤسسة على فقه مذهب واحد كما أصبحت التقنينات الحديثة لجوانب عدة من الشريعة الإسلامية أصداء لشتى الاتجاهات الفقهية. ولكن هذا الأفول التدريجي للفقه المذهبي يترك فراغاً يتزايد يوماً بعد يوم، إذ لم توجد حتى الآن منهجية بديلة مناسبة لتحل محله. فالذي حدث في غياب هذه المنهجية هو عودة إلى المصادر"الأولية"للفقه، أي إلى النصوص الفردية من آيات وأحاديث أحكام، مع محاولات أخرى غير ممنهجة للتلفيق بين المذاهب، وكأن المذاهب الفقهية التي استغرق تأسيسها وترسيخها مئات السنين وكل اجتهادات أئمتها وتلامذتهم العظام يمكن بهذه البساطة أن تستبدل بها النصوص الأولية الفردية أو التلفيق بين الأقوال المختلفة المنتزعة بمعزل عن جذورها في الأصول الخاصة بكل مذهب واختزال كل هذه القرون وكل مناهج الاجتهاد التي قامت على أساسها كبرى مدارس الفقه.
إن الأمر الذي يبدو غائباً عن بعض الأذهان في غمرة هذه اللحظة التاريخية الحرجة هو أن النصوص الفردية رغم أنها قطعية الثبوت إن كانت آيات أحكام وصحيحة الثبوت إن كانت أحاديث أحكام هي ظنية الدلالة ومجرد مصادر"أولية"نظراً لطبيعتها الظنية و لا يمكن استنباط الأحكام منها بمعزل عن أدلة خارجية قطعية مبينة لها وأنها ما تمكنت من القيام بدورها الذي قامت به في السابق إلا لأنها كانت مدعومة بمصادر"ثانوية"ومناهج خاصة مثل مراعاة العمل واحتمالات التخصيص والتقييد والنسخ ومراعاة الخلاف وغيرها من الضوابط المستخدمة في الفقه المذهبي ككل أو الخاصة بمذهب دون آخر مثل عمل أهل المدينة عند المالكية وعموم البلوى عند الحنفية. فهذه المناهج مكنت الفقه من استيعاب النصوص الفردية رغم ظنيتها بفضل تغليب المعايير الخارجية العملية القطعية على ظواهر النصوص الظنية. أما وقد غابت عن الساحة هذه المناهج بالغياب التدريجي للفقه المذهبي، فلم يعد ممكنا للنصوص الفردية، معزولة عن تلك المصادر الثانوية، أن تؤدي بمفردها الدور الذي سبق وأن قامت به.
إن مسألة ظنية النصوص الفردية هي من أهم المسائل الي واجهت الفقه الإسلامي منذ نشأته إن لم تكن أهم المسائل التي واجهته ولا تزال تواجهه على الإطلاق. وهكذا فإن شخصية كل مدرسة من مدارس الفقه الكبرى قد تحددت إلى حد كبير في ضوء موقفها من هذه المسألة، بدءاً من الإمام مالك الذي استمسك بمبدأ عمل أهل المدينة، والأحناف الذين اشترطوا شروطاً معينة لقبول الآثار سواء المرسل منها أم المسند، ثم الشافعي الذي لم يقبل عموماً سوى الحديث المسند، وغير ذلك من مواقف من هذه المسألة، بل لعله إن صح أن الحضارة العربية الإسلامية هي"حضارة النص"فإن مسألة ظنية النص الفردي هي من أهم ما واجه هذه الحضارة من مسائل في ماضيها واليوم عادت تواجهها من جديد بعد أفول الفقه المذهبي وسيطرة الخلط بين صحة الثبوت وقطعية الدلالة.
إن ظاهرة الاحتجاج بالنصوص الفردية، من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، بمعزل عن أية منهجية فقهية تقوم على أصول قطعية، لم تعد مشكلة أكاديمية، بل هي عرض من أعراض التخلف الفكري، بكل ما فيها من تبسيطية وسطحية، بل انقلبت في متاهة هذا التخلف من معلول إلى علة تضاف إلى علل التخلف المزمنة وأدوائه العديدة وسلاحاً يشهره من شاء في وجه من شاء ولا يؤدي إلا إلى مزيد من التردي في منزلق التخلف.
إن التمييز بين صحة الثبوت وقطعية الدلالة كان واضحاً كل الوضوح في أذهان الأئمة العظام، ولولا ذلك لما روى مالك حديث خيار المجلس في موطأه بسلسلة الذهب ولكنه لم يعمل به لمخالفته عمل أهل المدينة، أي أن الصحة في مصطلح الحديث لا تستلزم القطعية في الفقه، وأن النص الفردي وإن كان صحيح الثبوت يظل ظني الدلالة ما لم يعاضده دليل خارجي عملي متواتر قطعي مثل عمل أهل المدينة. وما حديث خيار المجلس سوى واحد من أكثر من سبعين حديثاً رواها مالك في الموطأ ولم يعمل بها، مثل تفضيله لسدل اليدين في الصلاة على رغم روايته في الموطأ لحديثين على الأقل يظهر منهما الأمر بالقبض، كذلك لم يأخذ مالك بحديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، وحديث"من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر"، لمعارضتها لعمل أهل المدينة أو لأصول أخرى يعتبرها قطعية ولا يتسع المجال لسردها. كذلك لم يأخذ أبو حنيفة بحديث"لا يقتل مسلم في كافر"، وأحاديث منع بطلان النكاح بلا ولي، والجهر بالتسمية في الصلاة، والوضوء من لمس الأجنبية، وقنوت الفجر، ورفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وغيرها كثير، لمعارضتها كلها لأصول يعتبرها قطعية. ونستطيع أن نمضي في سرد مثل هذه الأمثلة، ولكن لعل الصورة الصحيحة للمسألة قد اتضحت، فما من إمام من الأئمة إلا وترك الأخذ بهذا النص الفردي أو ذاك لمخالفته للأصول القطعية التي أقام عليها مدرسته، وما ذلك إلا لوضوح التمييز بين صحة ثبوت النص وقطعية دلالته عند الأئمة المجتهدين، فالنص الفردي يظل ظنياً ما لم يستند إلى أصل قطعي.
وإذا سلمنا بضرورة فتح باب الاجتهاد نلوذ به ليعصمنا من طوفان الفوضى الفكرية التي طغت نتيجة اضمحلال الفقه المذهبي واستفحال التلفيق والاستدلال بالنصوص الفردية، فإننا نصل إلى القسم الثالث والأخير من حديثنا، وهو كيفية فتح باب الاجتهاد. وقد رأينا أعلاه أن الاجتهاد في أي مدرسة من مدارس الفقه الكبرى لم يتأسس إلا على أصول متميزة عن أصول المدارس الأخرى، فمن لنا بأصول متميزة من دون أن نبتدع أو نخرج من دائرة الالتزام بالنصوص والمدارس نفسها؟ إن ذلك لن يكون إلا باتباع أصل يرجع في أساسه إلى الالتزام بالنصوص وفقه المدارس ولكنه في الوقت نفسه يصدر عن إدراك للطبيعة الظنية للنصوص الفردية كما يتجاوز الخلافات المذهبية، وما ذلك إلا الإجماع. ولكننا نبادر فوراً إلى تبيان المراد بالإجماع قبل أن يسارع البعض إلى الاحتجاج وإلى الخلط بين مفهوم الإجماع الجزئي السائد في بعض الأذهان ومفهوم الإجماع المتواتر الذي نعنيه.
فلسنا نعني بالإجماع هنا إجماع المجتهدين على مسألة جزئية في أي من العصور، فهذا أولاً خارج نطاق بحثنا، وهو ثانياً موضع اختلاف وشك كبير في حد ذاته. فمثلاً يروى عن الإمام أحمد قوله:"من ادعى الإجماع فهو كاذب"، والإجماع الذي يستبعده الإمام أحمد هنا هو اتفاق المجتهدين على أمر من أمور الدين، وهو الإجماع على ما يدخل في علم الخاصة، ولكنّ ذلك ليس بالإجماع الذي نريده هنا الذي هو بمعنى النقل المتواتر لما هو داخل بالضرورة في علم الخاصة والعامة، كالعبادات ومعرفة الحلال من الحرام. فالإجماع بالمعنى الأخير ليس المقصود بقول الإمام أحمد، إذ هو قوام الدين، وهو موضوع حديثنا الحالي.
والإجماع بهذا المعنى يعبر عنه في أحيان كثيرة بإجماع الصحابة. بل إن من العلماء من يحصر الإجماع، أي إجماع، في إجماع الصحابة وحدهم. والحق أننا لا نعرف إجماعاً متفقاً على وقوعه عدا إجماع الصحابة. وبعض العلماء يسمى ذلك"سنة الصحابة"، والتي ليست في جوهرها سوى السنة النبوية العملية التي وصلتنا عن طريقهم.
فإجماع الصحابة ليس بالضرورة مبنياً في جميع المسائل على اجتهادات، بل هو في جوهره إجماعهم على سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القناة الوحيدة التي وصلتنا عبرها هذه السنّة، فهو"الإجماع المستند على السنة"أو"السنة المجمع عليها"، إذ يزول الفرق بهذا المعنى بين الإجماع والسنة.
ولكن ما القناة التي وصلنا عن طريقها هذا الإجماع ذاته؟ أو، بتعبير آخر: إذا التمسنا محتوى هذا الإجماع، فأين سنجده؟ والجواب أن إجماع الصحابة قد انتقل من جيل إلى جيل حتى استقر في مدارس الفقه، فما أجمعت عليه هذه المدارس هو في جوهره ما أجمع عليه الصحابة. ولا نظننا نحتاج لطويل شرح لنتيقن من أنه لا يوجد سبيل لمعرفة ما أجمع عليه الصحابة بالتحديد سوى ما أجمعت عليه مدارس الفقه، إذ كيف يؤخذ الإجماع عن مدرسة واحدة، أو حتى مجموعة واحدة من المدارس؟ إن الإجماع لا يؤخذ إلا من الجميع. فما أجمعت عليه المدارس لا بد أنه قد كان مجمعاً عليه قبل ظهور المدارس نفسها، ويرجع في أصله إلى السنة، سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو سنة الصحابة من بعده. فتقبُّل جميع المدارس، حتى المتأخرة منها زمنياً عن غيرها، لأحكام عديدة بعينها يدل على أن تلك الأحكام كانت مفروغاً منها ولا جدال فيها، إذ أن أية مدرسة، بقدر ما تحرص على تأكيد شخصيتها الجغرافية والعرفية وتأكيد انتمائها إلى تابعين محددين وأفراد من الصحابة معينين، تحرص في الوقت نفسه على ألاّ تخرج عن أية أحكام مجمع عليها في المدارس التي سبقتها، وعلى أن ينطوي فقهها على ما استقر عليه الإجماع من قبل، إذ من ذلك تستمد أصالتها وعراقتها وشرعيتها قبل كل شيء.
هذا وإجماع المدارس، الذي هو دليلنا إلى إجماع الصحابة، الذي هو بدوره دليلنا إلى السنة، يشمل كثيراً من نقاط الإجماع، خلاف ما قد يتبادر إلى الأذهان، بخاصة تلك الأذهان التي تسيطر عليها الفكرة التقليدية عن الإجماع الجزئي وطبيعته النظرية شبه الصرفة وقلة أمثلته العملية. فالإجماع بالمعنى الذي بيّناه يشمل الأساسيات التي لا غنى عنها، من فرائض ونواه لا يقوم الفقه إلا بها وتغني عن الإجماع على غيرها.
أما ما لم تجمع عليه المدارس، أي ما اختلفت فيه، فهو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فتنطبق عليه قاعدة"لا يُنكر المختلف فيه"، ومعناها:"أن مسائل الخلاف بين العلماء التي استنبطت طبقاً لقواعد الاجتهاد وشروطه المعروفة عند أهل العلم، لا يعد الخلاف فيها من باب المنكر الذي تجب مقاومته والتشنيع على القائل به".
ومن البديهي أن احترام اختلاف العلماء لا يترتب عليه أي تعطيل، فهو لا يعني سوى الأخذ بقول أحدهم في المسألة دون الآخر، ولا يمكن أن يعني ترك الأمر المختلف فيه على الإطلاق. فمن نافلة القول إن الاختلاف في ألفاظ الأذان والإقامة والتشهد لا يؤدي إلى ترك الأذان أو الإقامة أو التشهد بل يعنى اختيار الالتزام بصيغة واحدة من عدة الصيغ المروية، وأن الاختلاف في رفع اليدين لا يؤدي إلى ترك الركوع بل اختيار الالتزام بالرفع من عدمه. فقصارى الأمر أن ما لم يجمع عليه فلا حرج من الاختيار فيه. وقد أحسن بما لا مزيد عليه من قال:"إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة".
فمبدأ الاختيار في المختلف فيه لا يقصد به سوى عدم التشنيع على من لا يلتزم بحكم غير مجمع عليه. فهذا المبدأ لا يمنع أحداً من القيام بأمر مختلف في فرضيته سواء قام به على أنه بالنسبة إليه فرض أو مندوب، ولا يمنع أحداً من الامتناع عن أمر غير مجمع على حرمته سواء امتنع عنه على أنه بالنسبة إليه حرام أو مكروه، بل يجوز لمن يشاء البقاء على التقليد، أي"اختيار"الالتزام بفقه مدرسة واحدة ما دام مدركاً لكونه اختياراً ولا يشنع على من لم يختره.
كما أن من لمن شاء أن يلتزم بقاعدة الأخذ بالأحوط، التي تتم مراعاتها عن طريق مبدأين: هما مبدأ مراعاة الخلاف، ومبدأ الأخذ بقول أكثر العلماء. فالمبدأ الأول يعني اجتناب ما يكون باطلاً أو محرماً عند أي من العلماء وإن صح أو أبيح عند غيره، ولذلك يكون عمل من يأخذ بهذا المبدأ صحيحاً عند جميع العلماء. فمن ذلك مسح جميع الرأس في الوضوء، والبسملة في الصلاة قبل الفاتحة، وقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، والتقصير من جميع شعر الرأس في التحلل من الإحرام، فهي وإن كانت موضع اختلاف فإن تركها عند بعض المدارس يبطل العبادة المتروك منها كلها، فالأولى مراعاتها خروجاً من الخلاف ليكون العمل صحيحاً بالاتفاق. أما المبدأ الثاني فيعمل به عند عدم توافر حالات العمل بالمبدأ الأول، أي في غير حالات البطلان والتحريم، بأن يكون من الأخذ بالأحوط إتباع ما عليه جمهور العلماء. فأياً كانت الكيفية التي يطبق بها مبدأ الاختيار في المختلف فيه، بما في ذلك مراعاة الخلاف أو قول أكثر العلماء أو حتى تقليد عالم واحد، فالمقصود بهذا المبدأ ليس التعطيل بل عدم التشنيع على من لا يلتزم بحكم غير مجمع عليه.
هذا وعلينا ألا نخلط بين الإجماع المتواتر والإجتهاد الملفق، فلا يقال إن الإجماع المتواتر يقوم على أحكام مأخوذة من جميع المذاهب فهو تلفيق بينها، فهذا غير صحيح لسببين على الأقل: فأولاً أحكام الإجماع المتواتر مشتركة بين جميع المذاهب فالحكم الواحد منها هو نفسه في أي مذهب، فهو غير ملفق من عدة أحكام مختلفة من مذهب آخر، وثانياً لأن المذاهب في هذا السياق ما هي إلا دليل على الإجماع المتواتر، أي أن وجود حكم معين في جميع المذاهب ما هو إلا معيار موضوعي نستدل به على أن هذا الحكم سابق في نشأته على نشأة جميع المذاهب ولولا ذلك ما وجد فيها كلها وحرصت كلها عليه، فالإجماع المتواتر مجموعة مشتركة من الأحكام الأولية تكمن في صلب كل مدرسة من المدارس وليس أحكاماً مذهبية راجعة إلى اجتهادات المدرسة ذاتها بل تعود في أصلها إلى السنة العملية التي تناقلتها الأجيال من عصر النبي والصحابة إلى عصر التابعين ثم تابعيهم حتى تبنتها المدارس تأكيداً لأصالتها وشرعيتها، فأحكام الإجماع المتواتر كالنواة تدور في فلكها الأحكام الخاصة بالمذهب، فالاستناد إلى الإجماع المتواتر ليس تلفيقاً بين المذاهب بل هو استدلال على السنة العملية عبر المذاهب.
كذلك لا يفوتنا أن نجيب عن تساؤل لا بد أن يدور في خلد البعض حول عدم ظهور مفهوم الإجماع المتواتر منذ بداية الفقه إن كان لهذا المفهوم ما علقنا عليه من أهمية. ولكن مفهوم الإجماع المتواتر لم يكن قد تبلور في دور نشأة الفقه، لتعدد المفاهيم التي كانت تقوم على الإجماع في ذلك الحين وترددها بين إجماع الأمة وإجماع المجتهدين أو إجماع علماء منطقة معينة أو طائفة معينة، وبينما أمكن الاحتجاج بمفاهيم أخرى متبلورة في تلك الفترة مثل مفهوم عمل أهل المدينة عند مالك ومفهوم السنة عند الأحناف والحديث النبوي عند الشافعي، فمن الطبيعي ألا يتبلور مفهوم الإجماع المتواتر في الفترة التأسيسية لأن المدارس نفسها التي ستقدم مادة هذا الإجماع لم تكن تبلورت بعد وإن كان هذا المفهوم واضحاً كل الوضوح عند بعض المتأخرين مثل الغزالي، وإن بقى على المستوى النظري لا يخرج من كتب الأصول إلى الفروع.
ولكننا اليوم لا نجد دليلاً يقودنا إلى السنّة المتواترة العملية غير الإجماع. فالإجماع، بمعنى النقل المتواتر، هو بدوره قطعي الثبوت بحكم طبيعته المتواترة وقطعي الدلالة بالنظر إلى طبيعته العملية. ولا دليل يرشدنا إلى الإجماع سوى إجماع مدارس الفقه الحية. فالمسائل التي حرصت كل مدرسة على ألا تخالف فيها المدارس الأخرى هي من دون شك منقولة جيلاً عن جيل عن الصحابة أنفسهم. فإجماع المدارس يهدينا إلى إجماع الصحابة، أو"سنة الصحابة"، التي ليست في جوهرها سوى السنة العملية المتواترة عن الرسول الكريم. وبذلك يزول الخلط بين المفهوم النظري للإجماع، الذي هو مجرد إجماع جزئي، والإجماع التاريخي، أي الإجماع المتواتر، الذي لا زال يمكن الاستدلال عليه عمليا، والذي هو في نفس الوقت إجماع الصحابة.
فاليوم بعد مرور أكثر من ألف سنة على نشأة الفقه، أصبح بالإمكان إرساء مفهوم الإجماع على أساس موضوعي منضبط هو إجماع المدارس الحية، وهي المدارس السنية الأربع والمدرستان الجعفرية والزيدية والمدرسة الإباضية، أي المدارس التي لم تترك اتجاهاً ذا أهمية إلا استوعبته وثبتت أهميتها على نحو موضوعي ببقاءها على مر القرون.
إن الأهمية الحاسمة لمفهوم الإجماع في هذه الفترة العصيبة لا تتأتى فقط من أن الوقت قد حان لتقبّله على المستوى النظري في ضوء تبلور المدارس السبع وظنية النصوص الفردية، بل لأن الضرورات العملية لا تترك لنا خياراً سواه ما دامت هذه المدارس، وإن تبلورت وثبتت أهميتها دون غيرها، فقد أصبحت هي نفسها تندثر شيئاً فشيئاً على أيدي أتباعها مخلفةً فراغاً هائلاً يحاول أن يملأه فقه ملفق يتشبث بالنصوص الفردية بمعزل عن مناهج الأئمة العظام.
كما إن الأهمية الحاسمة لمفهوم الإجماع في هذه الفترة الحرجة لا تتوقف عند المستويين النظري والعملي اللذين ذكرناهما، بل تتعدى مفهوم الإجماع في الفقه إلى إجماع حضاري وثقافي أشمل وأعمق لأمة هي أحوج ما تكون إليه في أحلك الظروف الروحية والأخلاقية والمصيرية.
هذا في ما يخص الإجماع المتواتر ومبدأ الاختيار في ما لم يجمع عليه في العبادات، أما ما لم يجمع عليه في غير العبادات فلا حرج من الاجتهاد المقاصدي فيه. فالمقاصد مكملة للإجماع، وهي مكملة له فقط في غير العبادات. والمقاصد تستقرأ من النصوص المتضافرة أو العلل المطردة، بحيث أن الأدلة الظنية، التي هي النصوص أو العلل الفردية، تصبح في مجموعها قطعية إذا تحقق تضافرها وأطردت معانيها.
إن كثيراً من عوامل التخلف الفكري والانحطاط الأخلاقي يعود إلى تجاهل المقاصد وبالتحديد إلى الخلط بينها وبين العلل. فالمقاصد، رغم أنها المقصود الحقيقي للشرع، هي بحكم طبيعتها عامة وقد تكون خفية وتقديرية، أي أنها ليست دائماً ظاهرة ومنضبطة بحيث يمكن التحقق منها على نحو موضوعي لا يختلف من شخص إلى آخر أو من حالة إلى أخرى، فلا يمكن لذلك التعليل وربط الأحكام بها مباشرة. وهكذا لا نجد بدا من أن نفيء إلى العلل كأوصاف ظاهرة للحواس منضبطة لا تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص مناسبة لتحقيق المقاصد، ولكن العلة الشرعية تبقى مجرد"مظنة"لتحقيق المقصد الشرعي أي أنها"المظنة أقيمت مقام المئنة"، أي هي فقط علامة وقرينة وضعت موضع نفس الشيء المقصود لسهولة التحقق منها موضوعيا، كالسفر مثلاً الذي أقيم علة للإفطار والقصر لظهوره وانضباطه ومناسبته لتحقيق المقصد الذي هو رفع المشقة.
ولكننا لا يجب أن نقف دائماً عند هذه العلل الجزئية ونغفل عن أن العلة ليست المقصد الشرعي في ذاته وأنها مجرد محاولة لضبط المقصد الشرعي وتفعيله ولا تجب أن تطغي عليه أو أن يؤدي التهافت عليها إلى نقيض وعكس المقصد الشرعي كما آل إليه الأمر في أحوال كثيرة، خاصة في ظاهرة"تقنين التقوى"على المستوى الأخلاقي التي لعلها من تداعيات الخلط بين العلل والمقاصد على المستوى الفكري. فكما يخلط فكرياً بين العلل الجزئية والمقاصد الأصلية التي ما وجدت العلل إلا لتحقيقها، يخلط أخلاقياً بين الشعائر والتقوى، أي بين الأشكال الطقسية و"مقاصد المكلف"التي نعني بها هنا"المقاصد الشخصية"والتي يمكن أن تفهم هنا بمعنى الصدق والإخلاص والاستقامة وغيرها من مكارم الأخلاق، وتحجب الغفلة حقيقة الشعائر وكونها مجرد تعبير عن التقوى وليست بديلاً لها وتحنط التقوى في قوالب جامدة من الأفعال والأقوال وأشكال خامدة من الطقوس وتنقلب الوسيلة غاية. إن العلة، تحت وطأة التقلبات الحضارية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها من صروف التغيير، قد تفقد قليلاً أو كثيراً من أهميتها أو حتى تنفصم علاقتها بالمقصد الذي لم تتم صياغتها أصلاً إلا للوفاء به، وتصبح بذلك مجرد شكل فارغ يجب إعادة استحضار المقصد فيه بزخم جديد يعيد إليه حيويته ويصله من جديد وبقوة بمقصده، وإن أدى الأمر إلى أن يستبدل بالعلة القديمة أخرى جديدة تعكس المقصد الشرعي الأصلي بقوة وصدق.
فنظرية مقاصد الشريعة ستظل ترفاً فكرياً نتغنى به بين صفحات الكتب وندعي به عمقاً فكرياً وفلسفياً نحن في الواقع لا نملكه ما دمنا لم نعلن أن"النصوص بمقاصدها"ولم نخط بالمقاصد الخطوة الكبرى التي تجعلها فعلاً"المبادئ العامة"أو"القواعد العامة"للشريعة التي تُستقرأ على سبيل القطع من النصوص المتضافرة أو العلل المطردة. فمهما يكن القصد النهائي للشاطبي في نظريته في المقاصد، سواء أراد لها أن تحل نهائياً محل الأدلة التفصيلية الجزئية أم لا، فهو قد أدى دوره في حينه أكمل أداء عندما وضعنا على جادة التفكير الاستقرائي التحليلي والتقعيد العام للفقه، بتأكيده على أن الاستقراء يفيد قطعية المقاصد الشرعية، فبالرغم من أن الاستقراء يبتدئ عند الأدلة الظنية فإن تضافر هذه الأدلة يجعلها في النهاية تؤدي بمجموعها إلى القطع وينقلب الظني قطعياً.
* الأستاذ السابق بقسم الشريعة/ كلية القانون/ بنغازي/ ليبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.