في كتابه «الموجة الثالثة»، يعتبر عالم الاجتماع الأمريكي إلفن توفلر أن البشرية تعرضت لثلاث «غزوات» حضارية أدت إلى تغيرات جذرية في بنية مجتمعاتها. هذه التغيرات هي كناية عن موجات «حضارية» بدأت بالزراعة (الموجة الأولى) التي تكسرت على أعتاب الثورة الصناعية (الموجة الثانية) وصولاً إلى أكبرها حجماً وتأثيراً ودفعاً في التاريخ البشري، وهي ثورة الاتصال والتكنولوجيا (الموجة الثالثة). وعلى الرغم من أهمية التصنيف الثلاثي للتطور المعرفي «التاريخي» (للموجات الثلاث) الذي جاء به توفلر، إلا أن المنعطف المعرفي البشري الحقيقي (turning point) كان مع أعلام «عصر الأنوار» وفلاسفته الذين شكلوا - بمجموعهم - قاعدة الانطلاق المعرفية النوعية في حياة البشر (الأنسيكلوبيديا الفرنسية مع ديدرو، روسّو، فولتير،...)، بحيث أرست أفكارهم مفهوم الإنسان الجديد، ومفهوم الحرية الفكرية التي دفعت بالمعرفة نحو «المأْسَسة»، بمناصرة المجتمع لها، لأنها تغلغلت في نسيجه، فكانت الثورة الصناعية نتيجة حتمية لها. وما الابتكارات والإبداعات البشرية التي نعيش تحت وقعها اليوم، إلا نتيجة فلسفات العقل والتنوير التي غيرت في نوعية البناء المعرفي العام (تحديداً في الغرب)، فحصل التحول الثقافي والاقتصادي الذي تلازم مع التحول في الوعي المعرفي - الاجتماعي، وهو تحول فكري تأسيسي جعل الغرب يخرج من الثقافة التقليدية المنقولة إلى رحاب الثقافة الحرة والإبداعية التي فتحت لهم الباب على مصراعيه أمام الثورة الصناعية وأبنائها لاحقاً: الثورة الصناعية الأولى (الطاقة البخارية)، كانقلاب معرفي جديد، ثم الثورة الصناعية الثانية (الكهرباء)، فالثالثة (الكومبيوتر والمعلوماتية)، وصولاً إلى الثورة الصناعية الرابعة «التسونامي الكبير» والسريع للتطور التكنولوجي الرقمي والذكاء الاصطناعي، كمعرفة جديدة لم يعهد التاريخ البشري مثيلاً لها على الإطلاق، لأنها تتجاوز - بسرعتها «الومضية» - المكان والزمان، وب «ذكائها» الذي سيُقابل ذكاء البشر بمئات، بل بما لا نهاية له من المرات. وهنا نبدأ مع ابتكارات الثورة الصناعية الرابعة التي دمجت التقانات الذكية على نحو تلاشت فيه الحواجز الفاصلة بين ما هو رقمي وبيولوجي وفيزيائي. المعرفة لامتناهية ما من أحد يخوض النهر نفسه مرتين، لأن النهر لا يبقى على حاله، وهو أيضاً لن يكون الشخص نفسه، هذا ما قاله الفيلسوف اليوناني هيراقليطس منذ 500 عام قبل الميلاد، فالتغيير ليس الثابت الوحيد - كما يقال - لأن التغيير نفسه يتغير الآن في كل لحظة. صحيح أن الثورة التكنولوجية الأخيرة قد أَحدثت انقلابات جذرية في المجتمع، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، إضافة إلى تغييرات في أنماط حياة الإنسان، لكنها حتماً لن تكون الأخيرة على المستوى المعرفي، لأن الطبيعة البشرية لا تقبل الركود والجمود، وهي في تطور مستمر، تستقبل معرفة جديدة وتودع أخرى أصبحت من الماضي، وهكذا دواليك...، وهذا ما أشار إليه بوضوح الفيلسوف توماس كون في كتابه «بنية الثورات العلمية» تعبيراً عن هذا النمط من الدوران المعرفي، حيث إن الانتقال من نمط معرفي إلى آخر (مُعبّراً عن هذه الحالة بمصطلح «البارادايم»Paradigm أو النموذج الإرشادي) والذي يتشكل بين جماعة من العلماء سرعان ما يصبح يوماً ما من الماضي ليعود ويتشكل آخر وآخر... وهكذا يحصل التطور والتغيير. تلاشي الزمان والمكان الإنسان - بطبعه - يسعى لإشباع حاجاته وتحسين جودة حياته وتسهيلها. وهذا يحقق له نوعاً من الرضا الداخلي ودرجات متفاوتة من السعادة. من هنا أهمية سعيه وحاجته الدائمة نحو التطور والابتكار، ف«الحاجة أم الاختراع» كما يقول المثل الرائج. بالأمس كان التواصل يتم بواسطة الحمام الزاجل. أما اليوم فأصبح التواصل «ومضيّاً»؛ فتقنيات الجيل الخامس (5G) واقترانها بالذكاء الاصطناعي خرقت حاجز المكان والزمان لدرجة إمكانية استحضار أي إنسان افتراضياً، من أي زمان، ولأي مكان، ومحاكاته بالصوت، والصورة. وقد رأينا بالأمس القريب كيف استحضر المطربان الراحلان: عبد الحليم حافظ وأم كلثوم من عالمهما الآخر، وأحييا حفلة فنية اختصرت أعمالهما باستخدام تقنية «الهولوغرام» التي تسمح بإنشاء صورة ثلاثية الأبعاد باستخدام أشعة ليزر، لتطفو الصورة في الهواء كمجسم هلامي فيه طيف من الألوان يتجسد على الشكل المراد عرضه. كما تمكن الذكاء الاصطناعي بالسفر إلى ما قبل التاريخ من تفكيك الشيفرة الوراثية لبعض فراعنة مصر، ولكليوباترا، ولحضاراتٍ أخرى، وتجسيدها بالصورة بواسطة تطبيقات إلكترونية متطورة، وكأنَّ هذه الشخصيات تعيش حية معنا. البحث عن معنى يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل إنَّ «التغيير شيء، والتقدم شيء آخر. التغيير علمي، والتقدم أخلاقي. التغيير لا ريب فيه، في حين أن التقدم مثير للخلاف»، فهل استطاع التطور المعرفي المستمر منذ قرون أن يبدد قلقنا ويخفف من تعاستنا كبشر؟ بعبارة أخرى هل تعدنا الثورة المعرفية الجديدة بتبديد قلقنا حول قضايا مستعصية كالحفاظ على الكوكب من الآثار المدمرة للمناخ، والاحترار الكوكبي، وفقدان التنوع الحيوي، والسيطرة على الأمراض، وترويض الطبيعة (زلازل وبراكين وأعاصير...)، ومنع الحروب، وأخطار الدمار النووي، ونقص الموارد الطبيعية، وخطر العزلة... بخاصة مع التسارع الكبير والسريع في تطور التكنولوجيا التي يجزم فيها العديد من الاختصاصيين والعلماء بأننا سنكون في منتصف هذا القرن أمام أنواع من البشر «عالية الذكاء، هجائن، معززة تكنولوجياً و»روبوتياً «وحاسوبياً لتحسين القوة أو البصر أو الذكاء أو لمنع بعض الأمراض أو لإحداث عواطف أو خصال معينة، إذا ما جرى التلاعب بهم وراثياً من خلال إقحام مقاطع من الحمض النووي DNA». من هنا ضرورة البحث عن معنى لماهية الإنسان ووجوده وأهدافه التي يمكن مقاربتها من خلال زوايا أربع، تتلخص وتتقاطع وتتماهى بمجملها مع «الأنْسَنة»: التحدي الأول: خطر الهيمنة لمن يمتلك التقنية والغرق في معادلة ال«نحن» وال «هُم»، أو الأقل شأناً والأرفع شأناً في صنع الحضارة، وهي معادلة تضع حاجزاً مانعاً للحوار والتواصل بين البشر، وبالتالي سنكون أمام نتيجة حتمية بأن من سيُحْكِم سيطرته على الذكاء الاصطناعي سيُهيْمِن على العالم، ما يجعل قضية المساواة والعدالة بين الشعوب والدول مدار بحث وجدل، كذلك التفاوت في توزيع الثروات ومستوى الدخل بين الفئات الاجتماعية، وأيضاً بين الدول الفقيرة والغنية، ما يطرح إشكالية حق الحصول على هذه التقنيات وتوزيعها العادل بين الشعوب. التحدي الثاني: الوعي بخطر العزلة الجسدية والنفسية جراء التطور الحاصل، وهنا نسأل: ما هي الوظيفة التي يمكن أن يؤديها الإنسان أفضل من الروبوت؟ ولعل إحدى الميزات الرئيسة التي تميّز البشر عن «الروبوتات» هي التواصل؛ فالبشر يتفوقون على الآلة بالقوة الناعمة وبالمهارات العاطفية التي تشمل المحبة والتعاون والتعاطف، وهم أيضاً أسياد التقنية وليس العكس، وعدم استخدام أدمغتنا بشكل أدق بالاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي يفقدنا القدرة على التفكير النقدي والكتابة، ويضعنا في سجن من العزلة والاغتراب والاستسلام النفسي والجسدي لهذه الآلات. التحدي الثالث: إشكالية الأمن الاجتماعي والاقتصادي، من خلال فقدان عدد كبير من الوظائف في شتى الاختصاصات وفق ما يجمع عليه معظم العاملين في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي هذا السياق نشير إلى أنه عند الانتقال من طور معرفي إلى آخر لا بد من فقدان وظائف وابتكار وظائف بديلة تواكب التطور المعرفي الجديد، ولكن هل هذه الفرضية قابلة للتعميم؟ لا شك أن الثورة الصناعية الأولى قد اختزلت العديد من الحرف والصناعات التي كانت تعتمد على الجهد الفردي والتي تم حصر إنتاجها في المصانع الكبرى باحتكار من الشركات الضخمة المتعددة الجنسيات، إلا أن الإبداع والابتكار البشري جعل بعضها يواكب هذا التطور تحت مسميات وفضاءات مختلفة: فالخياطة مثلاً أصبحت haute couture، ومهن أخرى كتبييض النحاس وصناعة الفخار والنجارة وحياكة السجاد يدوياً... أصبحت مهناً سياحية تراثية فولكلورية تعبر عن ثقافة البلدان وتاريخها في هذا المجال. كما أن المراكب الشراعية التي كانت مخصصة لصيد الأسماك، غدت نوعاً من أنواع الرياضة العالمية التي تدر أموالاً طائلة، فيما السفن التي كانت مخصصة لنقل البضائع استُثمر بعضها في المجال السياحي فأصبحت فنادق عائمة في ظل الاهتمام بقطاع الخدمات والسياحة في عصرنا الحالي. التحدي الرابع: الوعي الجمعي لأهمية منظومة قيم مكارم الأخلاق التي جاءت بها الشرائع السماوية، وفلسفات الحكماء، والديانات الفلسفية الآسيوية (البوذية، البراهمانية، الكونفوشية...) منذ فجر التاريخ، من هنا ضرورة الاهتمام بالفلسفة والعلوم الإنسانية إلى جانب العلوم الوضعية التطبيقية. وهذا بدوره يتقاطع مع إشكالية الأخلاقيات والسلوكيات للثورة المعرفية المستجدة منها على سبيل المثال لا الحصر: استنساخ البشر، انتهاك خصوصية الأفراد، التي تتقاطع معها إشكاليات حماية الأمن الإلكتروني الشخصي من خلال الحاجة إلى حماية الحسابات الشخصية من الهجمات الإلكترونية (السطو الإلكتروني، الحروب السيبرانية، القرصنة، الاختراقات، نشر الأخبار المضللة والزائفة والتأثير على آراء الناخبين...). وفي هذا السياق تثير حالياً التطبيقات الإلكترونية الذكية AI جدلاً أخلاقياً واسعاً في الوسط الثقافي، كونها تستطيع حل أي مسألة والإجابة عنها، ناهيك بإنجاز أبحاث الطلاب بسهولة وسرعة غير معهودة من دون أي جهد إبداعي أو ابتكاري منهم. إن تحديات اليوم تختلف عن تحديات الأمس، لأنها تحديات متسارعة ومتشابكة ومتنوعة: أخلاقية، اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية محورها الإنسان، وفلسفة وجوده ومعناه. ولعل الخطر الكبير الذي نعيشه اليوم يكمن في كيفية تركيب المصطلحات وفهمها. فالقنبلة (الشريرة) أصبحت قنبلة ذكية، والمُسيَّرة (الأنيقة) التي تصور جمال الطبيعة من السماء غدت مُسيّرة (خبيثة - غدارة) تنتهك الخصوصيات وتحمل حشوات صاروخية ذكية بهدف القتل وسفك الدماء، والجيش النظامي أصبح جيشاً إلكترونياً افتراضياً تجسسياً أو «ذباباً إلكترونياً» يتم من خلاله تسويق العنف المعنوي والأفكار غير الإنسانية أو غير السوية. وهنا تتقابل الثنائيات وتتواءم، فنكون أمام تشويش بين مصطلحات الخير والشر وخلط في فهم القيم الإنسانية. ويَبقى الهاجس الأخلاقي والاستخدام الأمثل للتقنية يُشكّلان التحدي الأكبر للبشر في المستقبل القريب؛ لذلك فإن النخب المجتمعية المؤثرة والفاعلة في الدول كافة مطالبة بالسعي لتطوير إطار أخلاقي جامع يهدف إلى مواءمة منتجات الذكاء الاصطناعي مع المعايير الأخلاقية السامية من أجل صون كرامة البشر وتقدمهم الأخلاقي والحضاري والاستفادة من هذا التطور «الومضي» واستثماره في تحسين جودة حياة الإنسان وسعادته. *أكاديمي وكاتب من لبنان * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.