الأحداث والتطورات التي تعصف بالبلاد العربية تحمل عناوين لا يمكن للعين أن تخطئها أو تتجاوزها، وهي تدعو لقراءة إرهاصات مرحلة مختلفة في مستقبل هذه المنطقة، حتى لتبدو محاولة للقطيعة ليس مع مرحلة ولكن مع مراحل تاريخية بعيدة. ثمة مشتركات وسمات تفرض نفسها في مشهد يتكرر من قُطر عربي لآخر، كنتيجة طبيعية لتشابه قسمات وملامح تلك النظم، التي تواجهها تلك الانتفاضات. السمة الكبرى في تلك الثورات الرغبة الشعبية العارمة في رحيل الزعامة التي ظلت لعقود تقبض على مشهد ومفاصل الحكم، وتديره بطريقة لم تحقق فيها لتلك الشعوب ما يمكن أن يكون مصدرا للدفاع عن شرعيتها. السمة الاخرى، تلك الحالة التي أوصلت تلك الشعوب الى صميم الشعور بالاحتباس وقتل إمكانية تجاوز الواقع المرير. ويشكل الجانب الاقتصادي عامل ضغط كبيراً، فهناك إخفاق واسع في التعاطي مع استحقاقات جيل لم يعد يرى أملا في حياة افضل، وهو يعاني الحرمان من فرص الحياة الطبيعية الكريمة. فشل الدولة في صناعة مجتمع تتحقق فيه قيم المساواة والعدالة في توزيع الثروة خلق أفضل الاجواء لصناعة عالم يراكم أزماته اليومية، ونظام استقر في الذهنية العامة انه على عداء مع شعبه، وينطلق هذا المخزون الذهني من طبيعة التحالفات التي زاوجت بين السلطة، ورأس المال، واستشراء الفساد في نظام مغلق، عمل على تصميم بنية سلطوية في العقود الاخيرة استحوذت على الثروة والسلطة في آن. سمة اخرى تأتي لترفع من سوية تلك الاحتجاجات او الانتفاضات الشعبية. فهي لم تسلم من تهاوي مشروع العدالة الاجتماعية - التي طالما رفعته تلك النظم شعارا - لترى نفسها في أجواء القهر المعمم عبر آلة سلطوية تبرع في صناعة أجهزة القمع والملاحقة وقتل المساحة الطبيعية للحركة او التأثير التي يمكن ان تكون متنفسا طبيعيا يحول دون الانفجار. ودون أن تكون حتى هناك مساحة للتأثير عبر ادوات سلمية يمكن الثقة بها او قبولها او التعاطي معها والاعتراف بها وهو ما شكّل عاملا كبيرا ساهم في انفجار كتلة اجتماعية واسعة ظلت تتراكم تحت وطأة القهر والفقر. كما ان المشترك في كل تلك المطالب سمة اخرى تكاد تكون متطابقة، فالشعوب العربية عاشت ردحا طويلا تحت وطأة صناعة عالم وهمي من الزعامات التي تحولت إلى عبء كبير في طريق التغيير. انكسار حاجز الخوف قدم أملًا وإن كان مكلفا لرفع وطأتها بعد عقود من الفشل والاخفاق. وكما أن هذا الحراك الشعبي الكبير بدأ بلا رأس او قيادة يمكن أن تتحول الى زعامة اخرى ملهمة، وكأن هذه الشعوب تحاول أن تصنع قطيعة مع ماضي الزعامات من واقع تجربتها المريرة.. فكذلك تبدو السمة التي تتحرك فيها انظمة في طور التشكل، فهي لا توحي بصناعة جديدة لكاريزما القيادة. المطلوب في هذه المرحلة قيادات تحقق شرعيتها من خلال صندوق الاقتراع لا سواه. وهذا إن كان يعني شيئا فهو يعني أنه لن يكون ثمة فرصة لصناعة أوهام زعامات جديدة على النسق العربي الذي ساد منذ مرحلة الانقلابات العسكرية وما تلاها. الثابت الاكبر في تلك التحولات أفول عصر الاستئثار في جمهوريات العرب بالسلطة الى الابد، وانتهاء قصة التوريث، التي ماتت بعد أن كادت تصبح سمة في امتداد عمر السلطة وتركيزها في حالة عربية غرائبية، وكانت من الاسباب الرئيسية في تكوين ذلك الشعور الجمعي المنتفض على مشروعات التوريث، والتي ألقت بظلالها القاتمة على واقع محتبس اصلا. ومما يستدعي التوقف ايضا، ان المطلب الرئيسي الذي يحظى بقبول واسع اليوم، هو بناء دولة مدنية تعددية تخضع لنظام دستوري وقانوني غير قابل للانتهاك.. هذا الحلم كاد أن يكون يوما ما جزءاً من تكوين سياسي عربي في طور التشكل وذلك قبل قرابة ستة عقود مضت. لم تكن المنطقة العربية خلواً أبداً من تجارب ديمقراطية وليدة، لم يكتب لها ان تعيش او تنمو بشكل طبيعي بعد ان عطلتها انقلابات عسكرية حولت بلدانها الى نظم سلطوية حتى وصلت الى مرحلة الاخفاق الذريع، وأنتجت بجانب القمع وإلغاء الحياة السياسية ومصادرة الحريات وبناء دولة الاجهزة الامنية أوطانا مسكونة بالقهر والخوف والفقر. لقد استوحت النخب السياسية العربية التي تسلمت زمام الحكم منذ عهد الاستقلال، وما قبله ملامح الدول الحديثة ودساتيرها وقوانينها، لكنها تراجعت تحت وطأة الانقلابات العسكرية وتكريس النظم الشمولية لمربع البدايات حين ابتلعت السلطة الدولة. ففي مصر، ليس هناك من لا يقوى على الاعتراف بذلك المشهد من الحريات السياسية والصحفية ودور النخب وحراك الشارع المصري وتأثيره، واحترام القضاء وسلطته، وتعاقب الحكومات الحزبية، وهو مشهد مازال يُستدعى حتى اليوم، وتُعاد قراءته بإنصاف أكثر بعد أن غُيب عقودا تحت وطأة 23 يوليو 1952. بل هناك اليوم من يريد محاكمة مرحلة كاملة منذ عام 1952 باعتبارها المرحلة الفاصلة التي اوصلت مصر لوضعها الذي تفجر في 25 يناير 2011. بالطبع ليس الحديث هنا عن ليبرالية متقدمة ولا عن أوضاع مثالية، فالحديث منصب على الأجواء التي كانت تعبر عن حالة متقدمة بما أصبحت عليها الحال فيما بعد. تلك المرحلة كان من الممكن ان تعظم عوائد نظام ديمقراطي ليبرالي مدني يتجاوز الاخفاق الذريع الذي عانته مصر فيما بعد - رغم اختلاف المراحل والتمايز بين ملامحها - إلا أنها ها هي تعود بعد ستة عقود لتبحث عما فقدته في ملامح نظام جديد يعيد لمصر وجهها المدني وحضورها وفاعلية قواها الاجتماعية والثقافية والسياسية في نظام ديمقراطي تعددي تحت مظلة دولة مدنية. أما في سورية فالتجربة السياسية التي تمخضت عن انتخابات برلمان 1954 تعطي دلالات على إمكانية أن تشق بذرة الديمقراطية طريقها في مجتمع مفعم بالآمال. القوميون والوطنيون والمستقلون والاخوان المسلمون تعايشوا مرحلة قصيرة في سورية، ولم يكن هذا ليحدث بعد أن ألقت الدولة الأمنية القبض على تفاصيل الحياة السياسية، ولم تكن بعد ترسخت جمهورية الخوف، لتقضي على ملامح دولة تعددية كان يمكن أن يتبلور عن مؤسسة لها صفة النمو ناهيك على التجذر والتأسيس. أما الحالة العراقية فلم تكن بعيدة عن هذه الأجواء ، فالفترة الملكية في حكم العراق حملت معها قوى ورموزاً سياسية أصبح لها شأن في العراق الملكي، وعندما بدأت الحياة البرلمانية عام 1924 كانت تقوم على أساس أحزاب تسعى للأغلبية البرلمانية، ونشأت العديد من الأحزاب السياسية في عشرينيات القرن الماضي. ورغم تدخل الحكومات في العملية الانتخابية لتأمين أغلبية برلمانية موالية لها، كانت جماعات المعارضة ما تزال قادرة على انتخاب ما يكفي من أعضاء لفرض مناقشات سياسية جادة. وقد أصدرت هذه الجماعات وغيرها عشرات من الصحف التي كانت تنتقد رؤساء الوزارة والسياسات الحكومية. وهو ما افتقده العراق في العقود التي تلت تلك المرحلة والتي اتسمت بالقسوة والتعطيل والقضاء على الحياة السياسية. لقد هدمت الانقلابات السور الواطئ لدولة القانون، والتي كانت في طور النمو في مجتمع لم يتعرّف على شكل الدولة الحديثة في حينها، إلا منذ زمن يُعد قصيراً في عمر الشعوب. أدى التراجع في تطبيق مبادئ الدولة إلى تحولها سلطة استبدادية تستند بشكل رئيسي إلى الأجهزة الأمنية أو بعض المكونات التقليدية من طائفية أو عشائرية، وتقدمت عناصر الولاء على عناصر الكفاية، وبدت الحياة السياسية والفكرية والثقافية تدور في قالب مصمت، وتراكمت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتراخت استحقاقات التغيير والاصلاح... وها هي ذات الشعوب تحاول العودة لبنية دولة افتقدت ملامحها طويلا. نقلا عن الرياض