لا أدري كيف ستكون حال مصر ساعة نشر هذا المقال, ولا كيف سيكون المسار الذي سوف تأخذه المحروسة في سعيها الحائر بين عالم يأفل, وحاضر يتغير, ومستقبل لا يعرف أحد هل سيكون زاهرا, أم داميا؟. ولكن وسط هذه الحال يجري التفكير في أمور كثيرة, يكون في بعضها أحلاما وآمالا أن تمضي الأمور علي ما يرام وأن تكون الثورة في النهاية طريقا إلي خروج مصر من العالم المتخلف إلي دنيا أخري, تصنف فيها مصر في صفوف الدول المتقدمة. عدت إلي أوراقي فوجدت مقالا نشرته في صحيفة الأهرام المسائي يوم الخميس16 ديسمبر2010 أي قبل أكثر من شهر من ثورة الخامس والعشرين من يناير بعنوان جوجل المصري. وقبل ذلك بأسبوعين كنت قد نشرت مقالا في صحيفة الشرق الأوسط يوم الأول من ديسمبر2010 بعنوان جوجل العربي. في المقالين كانت الأطروحة هي أنه لن يكون مقدرا لمصر أو العالم العربي التقدم ما لم يكن هناك المناخ والقدرات التي تسمح بظهور من يستطيع المواهب التي تقدم لنا وللدنيا أفكارا وإبداعا وابتكارا مثل ذلك الذي فجره فتيان جوجل ومن قبلهم آبل ومايكروسوفت وأوريكل وغيرهم ممن غيروا عالم الصناعة والاقتصاد والحياة للدنيا بأسرها, ومعها كونوا ثروات طائلة فاقت كل من سبقهم من أصحاب الثروات الذين امتلكوا مصانع الحديد والصلب والسفن والطائرات والسيارات وغيرها من الصناعات. كانت الأطروحة بسيطة في جوهرها, وما جاء بعد ما فيها من تمنيات, كان فيها مقترحات كلها تدور حول التعليم ومؤسسات البحث العلمي التي يمكنها أن تنتج رجل الجوجل الذي سيعيد تشكيل مجتمعاتنا من جديد. ما كان ناقصا في المقالين هو أن ظهور مثل هذا الرجل يحتاج إلي ما هو أكثر من التعليم ومراكز البحث العلمي المتقدمة, ولكنه يحتاج مجتمعا حرا ومتقدما ومدنيا وحديثا ليس بالقول بل بالفعل. فالحقيقة أن جوجل المصري كان موجودا بالفعل منذ وقت طويل, ولكنه لن يكون مماثلا لصاحبه الأمريكي أو الأوروبي أو الآسيوي ما لم تكن مصر مجتمعا آخر مدنيا وحديثا وديمقراطيا ومنفتحا علي العالم. قصة وائل غنيم فتي ثورة الفيس بوك الأول تحكي الحكاية كلها بوضوح صباح شمس صيف. فقد تخرج وائل غنيم في كلية الهندسة بجامعة القاهرة في عام2004, وحصل علي درجة الماجستير في إدارة الأعمال بتقدير امتياز من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة بعد ذلك بثلاثة أعوام. ومنذ بداية استخدام الشبكة الدولية للمعلومات قام وائل غنيم بتأسيس موقع في عام1998, وفي الفترة من عام2002 حتي عام2005, التحق بالعمل في شركة جواب دوت كوم(Gawab.com) لخدمات البريد الإلكتروني, ونجح في الفترة من عام2005 حتي عام2008, في تشكيل فريق أسس بوابة معلومات مباشر التي بلغ عدد الزائرين لها بعد عام واحد فقط مليون زائر يوميا. بعد ذلك التحق وائل غنيم بالعمل في شركة جوجل في شهر نوفمبر2008, حيث تولي منصب مدير التسويق في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للمنتجات الخاصة بالمستخدمين مثل محرك البحث جي ميلGmail, ومتصفح جوجل كرومGoogleChrome, ويوتيوبYouTube. وكان وائل غنيم من المهتمين بتوسيع نطاق مستخدمي الإنترنت من العرب, حيث أبدي تفاؤله بإمكانية أن تساهم مبادرة أهلا أون لاين التي طرحتها شركة جوجل في زيادة عدد المستخدمين من الناطقين باللغة العربية, خصوصا أن الموقع يزود المستخدمين بالمهارات اللازمة لتصفح الإنترنت, واستخدام محركات البحث للوصول إلي معلومات معينة, والتواصل مع الآخرين من خلال المواقع المتاحة. نحن هنا إزاء شاب مصري نابه, هو في النهاية نتاج التعليم المصري الذي نعرفه ونشكو منه دائما, حيث جاء من بين صفوف جامعة القاهرة. وهو من ناحية أخري نتاج التعليم الأجنبي والأمريكي خاصة وهو ما يعني التعرف علي ما يعرف بالتعليم الليبرالي بكل آفاقه وقيمه الواسعة لاحتضان الإنسانية. ومن ناحية ثالثة فإنه نتاج الثورة التكنولوجية العالمية المعاصرة بكل ما فتحته من آفاق للاتصال لم نعرف أبدا المدي التي وصلت إليه من حيث القدرة علي تحقيق الاتصال والارتباط بين الناس. وكان صحيحا تماما ذلك القول الذي جاء فيه أن شعب الفيس بوك هو الشعب الثالث من حيث العدد في العالم بعد الشعبين الصيني والهندي!. من ناحية رابعة هو جزء من الشباب المصري الجديد من أبناء الطبقة الوسطي الذي عندما شاهدته لأول مرة كان مماثلا لأبنائي بهذه الرغبة في التميز التي تجعل لها لحية صغيرة, وذات ملابس سينييه تظهر عليها أشكال مميزة مثل البولو لشركة رالف لورين, والأسد لشركة بيربيري, وهكذا أشكال وألوان, ويتحدث بخلطة لغوية بين العربية والإنجليزية, وحاملا لاب توب طوال الواقت أو معظمه, ولكنهم في النهاية مثاليون يطالبون بالحرية الكاملة, والعدالة المطلقة. ومن ناحية خامسة فإن انتشار الشركات المتعددة الجنسية العالمية من أركان الدنيا الأربعة أوجد ثقافة خاصة ذات جوهر خاص يتساءل دائما لماذا نحن لسنا كما الآخرين في الدنيا من المتقدمين والقادرين, وإنما بين من هم في صفوف متأخرة ننتظر المعونات والمنح من جهات متعددة. وأخيرا بقيت ناحية سادسة لها علاقة بوائل نفسه, ربما صفات قيادية اكتسبها من أسرته أو من كل ما سبق تجعل منه قائدا ومن زملائه جماهير, وربما سمات كاريزمية, ولديه ما يكفي من الصفات الممتازة لشركة عالمية مثل جوجل لاختطافه للعمل بها. هذه السمات التي ربما كان هناك ما هو أكثر منها, ولكنها أنتجت أمرا متميزا عندما اصطدمت بحدث دام أصبح وائل غنيم بعده أحد مفجري الاحتجاجات التي اندلعت بدءا من يوم25 يناير2011 عندما أطلق الدعوة للتظاهر عبر شبكة الإنترنت أو ما يسمي العالم الافتراضي, خصوصا موقعي تويتر وفيس بوك. وكان صاحبنا قد أنشأ علي الأخير صفحة كلنا خالد سعيد, وهي الصفحة التي كانت أحد المساهمين في الدعوة للاحتجاجات وبلغ عدد أعضائها650 ألف عضو; وكان لهذه الصفحة دور مهم قبل ذلك في الدعوة لمحاكمة قتلة خالد سعيد الذي توفي علي يد بعض رجال الشرطة وهو ما أدي في النهاية إلي إحالة اثنين من أفرادها إلي المحاكمة الجنائية. وقد تحول وائل غنيم إلي أحد رموز الثورة عندما نشبت وأصبح حديث الساعة بعد احتجازه ثم الإفراج عنه مرة أخري بعد نحو عشرة أيام. وبشكل ما أصبحت قصة وائل غنيم, سواء أراد ذلك أو لم يرد, جزءا من آليات الثورة, كما يحدث في كل الثورات, حيث تتخلص الدراما الإنسانية من تفاصيلها الكثيرة, وجماهيرها الغفيرة, وأبطالها المنسيين, وتركز علي وجوه بعينها تصير بعد ذلك جزءا من الملحمة أو المأساة حسبما تنتهي حال الثورة. وما جري بعد ذلك من دور لفتي الثورة ربما يمكن روايته في يوم ومكان آخر, ولكن السؤال المهم الآن هو هل يستطيع جيل وائل غنيم بكل ما سبق له من سمات أن يكون جزءا أساسيا من مستقبل مصر بعد أن كان سببا مهما في وضع نهاية لنظام سابق استنفد القدرة علي أخذ البلاد إلي الأمام؟ الإجابة علي هذا السؤال تجعل كل الأيام المريرة السابقة مقدمة طبيعية لفترة سعيدة قادمة تتفجر فيها قدرات وطاقات خلاقة لم تعرفها البلاد من قبل. فما لدينا هو جيل جديد يختلف جذريا عن الجيل الذي قاد البلاد منذ عام1952 وتقاليده في الحكم والحياة والسياسة; وهو جيل يشابه تلك الأجيال التي ثارت علي قادتها عام1968 في معظم دول العالم, وأبرزها فرنسا والولايات المتحدة, وولد بعد ذلك قادة عالمون بقدرات متميزة. ولا أدري لماذا بدا لي شباب ميدان التحرير غير مختلف كثيرا عن شباب وود ستوك في أمريكا الذي كان عليه بعد ذلك أن يأخذ بالولايات المتحدة من نكستها الكبري في فيتنام إلي أعتاب الثورة الصناعية الثالثة والركود الكبير في السبعينيات حتي ولدت العبقريات التي كان منها ستيفن سبيلبيرج في السينما, وبيل جيتس وستيفن جوبز في مجالات التكنولوجيات الجديدة التي بدأت خلال الثمانينيات ولكنها انطلقت بأمريكا خلال العقدين التاليين. لكننا لم نكسب جيلا جديدا فقط, ولكن مصر كسبت أيضا معها معرفة التكنولوجيات الجديدة المعاصرة, ولم يضع عبثا الإمكانيات التي وفرتها الدولة لكي يدخل22 مليون شاب علي شبكة الإنترنت, يصنعون الصحف الإلكترونية التي غيرت من الساحة الإعلامية في مصر, وشكلت أكثر من ثلث عدد المدونين العرب. ولكن الأهم من ذلك هو الحد الذي أخذ به هذا الجيل الصناعة والتجارة والخدمات في مصر ونقلها إلي آفاق عليا أعطتها فرصة في التجارة العالمية. وأكثر من ذلك فإن جيل وائل غنيم هو في حقيقته جيل اقتصاد السوق والشركات متعددة الجنسية, وكلاهما كان مكروها في مصر, وكانت هناك حملات مستمرة علي هذا الاقتصاد وشركاته العالمية باعتبارها مضادة للأغلبية من الشعب, وسبيلا إلي السيطرة العالمية علي البلاد بوسائل أخري. هذه الأعمدة كلها, الشباب والتكنولوجيا واقتصاد السوق والشركات العالمية متعددة النشاط مثل جوجل وأمثالها, هي التي أخذت دولا متخلفة مثلنا إلي آفاق التقدم. ولم يكن ممكنا للصين وماليزيا وكوريا الجنوبية وتركيا والبرازيل أن تصل إلي ما وصلت إليه لولا أن كان لديها الملايين من أمثال وائل غنيم مسلحين بكل ما سبق بالإضافة إلي وطنية فياضة تضع كل ذلك في خدمة الوطن. تلك هي القصة أو بعضها, ولكن فصولها لم تصل إلي نهايتها بعد. نقلا عن الاهرام المصرية