تنبع أهمية ما كتبه ابن خلدون أنه كان يتمتع بحس (قانوني – سنني) مرهف، فهو يحاول فهم علل الأشياء، ويدخل إلى باطن الأحداث، ليكتشف القانون الذي يسيطر على توجيه الأحداث فيقول: (فالتاريخ في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق). هذا الاكتشاف المدهش الذي توصل إليه ابن خلدون يعتبر انقلاباً نوعياً في تاريخ الفكر كله، فهو نزل إلى الحوض التاريخي، يقرأ الأحداث ويحاول فهمها، ليس كقطع ممزقة، ونثارات مرمية، وحوادث لا يجمعها خيط، أو ينتظمها قانون، بل كواقع بشري يخضع ل (سنة الله) في خلقه، فاكتشف قانون قيام الدول وموتها، كما حلَّق إلى مرتفع شاهق، فلمح بومضة عين انتهاء مسيرة الحضارة الإسلامية. وأهمية هذه الفكرة أنه بذلك أدخل (الفهم السنني) إلى مجال التاريخ، فلا غرابة أن يعتبره (فلنت) كما جاء في كتاب (تجديد التفكير الديني) لمحمد إقبال: (إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون، وكل من عداهم غير جديرين حتى بأن يذكروا إلى جانبه). ولعل من أعظم اكتشافات ابن خلدون انتباهه إلى قانون قيام الدول وسقوطها، ومع أنه انتبه إلى فكرة الحضارة، وكان من الأوائل الذين انتبهوا لهذا المفهوم، ولكن (الأدوات المعرفية) لم تكن في عصره تمكّنه أو تمنحه قدرة الوصول إلى فهم من مستوى هذه العتبة، حتى جاء جيل جديد من العلماء من أنموذج (توينبي وشبنجلر وويلز) فكشفوا النقاب عن مستوى جديد من فهم الوجود الإنساني في مستوى الحضارة. وهو ما دفع (مالك بن نبي) أن يسطّر مجموعة كتبه بسلسلة مشكلات الحضارة. وأجمل ما في فكر ابن خلدون هو استفادته وربطه هذا الفكر السنني المحلق بالقرآن، في محاولة مزج العلم بالإيمان كممارسة عادية، وهي التي أشكلت وحيّرت الكاتب القومي (ساطع الحصري) الذي رأى في هذا المزج، أنها كانت من طبيعة العصر المملوء بالخرافة والتخلّف في عصره، فأعتذر عن ابن خلدون بالنيابة أنه استخدم الآية القرآنية مما يخجل ابن خلدون. امتلك ابن خلدون من قدرة التحليق ما يخترق به القرون ليقنص قوانين عجيبة مثيرة. وكانت الحجب تسقط أمام عينيه فجأة ليغرق من حين لآخر بشعور من النشوة الحالمة في المغزى اللانهائي للأشياء، على حد تعبير الفيلسوف البريطاني كولن ولسن في كتابه (الإنسان وقواه الخفية THE OCCULT): « إن الدين والنزعة الصوفية والسحر تنبع كلها من نفس الإحساس الأساسي إزاء الكون: إحساس مفاجئ ب (المعنى) الذي يستطيع الناس أحياناً أن يلتقطوه مصادفة، مثلما قد يلتقط مذياعك محطة مجهولة دون قصد، والشعراء يشعرون بأننا مفصولون عن المعنى بحائط من الرصاص، وأننا أحياناً، نستطيع أن ندرك أن الحائط يبدو وكأنه قد اختفى، وأننا فجأة مغمورون بالمغزى اللانهائي للأشياء».