في نهاية القرن الثامن الهجري (الموافق لنهاية القرن الرابع عشر الميلادي) وفي قلعة منعزلة في أقصى المغرب العربي، جلس رجل غريب التفكير جم النشاط، يسطر بحثاً في التاريخ، غريب العنوان طويله. كان هو الفيلسوف والمؤرخ ابن خلدون، وأما كتابه فحمل هذا العنوان الطويل (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر). يخلص فيه إلى نتيجة لم تخطر على بال أحد من قبل، فقد استطاع أن يحلّق بعقله عبر القرون، فيصل إلى فهم حركة التاريخ، ويعلن عن انطفاء شعلة الحضارة الإسلامية، بهذه الكلمات القليلة: (وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث). وأهمية ابن خلدون أنه كان يتمتع بحس (قانوني – سنني) مرهف، فهو يحاول فهم علل الأشياء، ويدخل إلى باطن الأحداث، ليكتشف القانون الذي يسيطر على توجيه الأحداث (فإن التاريخ في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق). هذا الاكتشاف المدهش الذي توصل إليه ابن خلدون يعتبر انقلابيا ونوعيا في تاريخ الفكر كله، فهو نزل إلى الحوض التاريخي، يقرأ الأحداث ويحاول فهمها، ليس كقطع ممزقة، ونثارات مرمية، وحوادث لا يجمعها خيط، أو ينتظمها قانون، بل كواقع بشري يخضع ل (سنة الله) في خلقه، فاكتشف قانون قيام الدول وموتها، كما حلّق إلى مرتفع شاهق، فلمح بومضة عين انتهاء مسيرة الحضارة الإسلامية. وأهمية هذه الفكرة أنه بذلك أدخل الفهم السنني إلى مجال التاريخ، فلا غرابة أن اعتبر المؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي عمل ابن خلدون التاريخي -والعلماء يقدرون بعضهم- بأنه (أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي مكان أو زمان: (IT IS THE BEST WORK OF ITS KIND THAT IS CREATED BY ANY MIND IN ANY TIME OR PLACE). أو أن يعتبره (فلنت) كما أورد ذلك محمد إقبال في كتابه تجديد التفكير الديني: (إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون، وكل من عداهم غير جديرين حتى بأن يذكروا إلى جانبه). إن فكر (ابن رشد) و(ابن خلدون) السنني لم يترك أثره بكل أسف في العقل الإسلامي حتى اليوم، فالطريق الذي شقه ابن خلدون لم يتفطن أحد إلى خطورة اكتشافه، ولهذا لم يتابع أحد هذه الومضات الخالدة وهذا التحليق المدهش، أما ابن رشد فهو متهم حتى الآن!.