إن كنت قارئاً ذواقاً للروايات الجيدة فأنت تعرف كم هي نادرة تلك الأعمال الممتعة والعميقة في ذات الوقت، ولاشك أنك أصبحت تملك مهارتك الخاصة في التفريق بين الرواية ذات القيمة الحقيقية وبين الزيف والبهرجة التي تحيط بكثير من الأعمال العادية حتى لو نالت الجوائز وتحولت لأفلام سينمائية ناجحة، نادرة جداً تلك الأعمال التي تملك أصالة وتفرداً وتنال الأضواء وتلفت الأنظار في ذات الوقت. «حياة باي» للمؤلف «يان مارتل» هي إحدى تلك الجواهر النادرة. هذه الرواية لا يمكن أن تُقرأ قراءة عابرة، هذه رواية لابد أن تُعاش، لابد أن تشعر بها تتخلل روحك، أن تشعر بماء البحر والملح يغمر جسدك، أن تلهب الشمس بشرتك دون حائل، أن تقشعر عظامك برجفة البرد والعواصف وتحت المطر. أن تشعر بالوحدة واليأس والألم لأقصى الحدود، أن تشعر بالأمل والنشوة والإيمان لأعمق مدى في وجدانك. أجمل ما في الرواية هو أنها تروي تجربة روحية عميقة جداً بلغة حركية وصفية سهلة ومحايدة. الفتى المتعطش للروحانيات متعدد الأديان يجد نفسه وحيداً في عرض البحر بعد أن غرقت سفينة الشحن التي تقله وأسرته وحيوانات حديقتهم التي كانوا بصدد نقلها معهم إلى كندا، تلك الرحلة التي لم تتم أبداً. وحيداً في قارب نجاة.. ليس وحيداً تماماً إذا كنت تعتبر رفقة نمر بري متوحش صحبة سفر جيدة! 227 يوماً قضاها الفتى في قارب نجاة تائهاً في البحر مع صديقه النمر، لا قائد، لا رفيق، لا طعام، لا أمل. فجأه تتفجر في داخل الجسد الهزيل براكين ذاخرة من المشاعر، من الطاقة، من الخيالات والأفكار والأحلام. يفاجئك الفتى بقدرات عجيبة على التكيف، بقدرة مذهلة على الابتكار والتعلم ومصادقة الطبيعة. يروي الفتى قصته التي يؤكد هو والمؤلف أنها حقيقية، ويغمرك بمناطق أقرب للفانتازيا ويؤكد لك أنها حقيقية، العمى المؤقت الذي أصابه يومين والزائر الغامض الذي زاره ويؤكد أن النمر الْتهمه، الجزيرة المفترسة التي زارها التي تلتهم الناس وتحتفظ بأسنانهم فوق الأشجار. العلاقة العجيبة بين الفتى والنمر والمنافسة الدائمة بينهما على السيادة، لأن السيادة على متن القارب الصغير تعني الفارق بين الحياة والموت. وسواء كانت القصة حقيقية أو خيالية فقد وُفق المؤلف في الحصول على كنز كبير في قصة الفتى التائه وجعلها مقنعة وحقيقية في نظر القارئ، وهذا هو المهم، وأعتقد أن المفارقة في وصف تجربة شرقية بأسلوب رواية حركي غربي منحتنا مزجاً رائعاً بين العمق والتشويق!