يجري الحديث عن فيلم «حياة باي» بوصفه أحد الأفلام المرشحة لأكثر من أوسكار خلال الأسابيع المقبلة. وفيلم آنغ لي الجديد هذا كان أحد العروض الساحرة في الدورة الأخيرة لمهرجان دبي السينمائي. في الفيلم لن يكون النمر «رابضاً» هذه المرة، بل في قارب نجاة تتقاذفه الأمواج، بينما يسعى الفتى باي إلى ترويضه على رغم دوّار البحر. وباي هو ذاك الفتى الهندي الهندوسي والمسيحي والمسلم، الخارج من رواية يان مارتل الشهيرة ليجسد قصته سينمائياً آنغ لي في هذا الفيلم الممتع. للتقنيات أن تكون حاسمة في جديد آنغ لي، ولها أيضاً أن تكون معبّره عن قبول تحدي تجسيد تلك الرواية التي باعت منذ صدورها، أكثر من 7 ملايين نسخة حول العالم، بخاصة أن مخرجين آخرين مثل ألفونسو كوران ونايت شياميلان وجان بيير جونيه تخلوا عن فكرة إخراجها بعد حماسة، وليضاف إلى ذلك كله أن الفيلم هو تجربة الصيني/الأميركي لي الأولى مع تقنية الأبعاد الثلاث، ويا لها من تجربة! أدبياً ما زالت الحيوانات معبراً إنسانياً نحو المجازات، وليس لحكايات البشر إلا أن تستعين بها، كما لو أن الأمر على ارتباط بموروث إنساني غارق في القدم، على شاكلة «كليلة ودمنة» مروراً برواية جورج أورويل «مزرعة الحيوانات»، وصولاً إلى رواية يان مارتل «حياة باي» التي أعادت إلى هذا التقليد السردي الإنساني الأصيل بريقه من جديد، بما يقول لنا أن هذا الترميز ما زال يحتمل معالجة روائية جديدة. وقد تبقى هذه الرواية نفسها على الورق، مع أنها في انتقالها إلى الشاشة تتلامح أطياف من «موبي ديك» وحتى «روبنسون كروزو»، حيث النجاة والصراع مع الطبيعة بؤرة درامية تتكاثف فيها كل الأعماق الإنسانية ما دام صراعها صراع بقاء. رهان الدهشة بالانتقال إلى السينمائي، يجد آنغ لي المعادل البصري للرواية في اجتراح عوالم يقوم رهانها على إدهاش المشاهد وأخذه في رحلة مفتوحة على استثمار فريد في البنية التصويرية للرواية، لكن بما يتخطى ذلك، في نجاحه في ألا يفقد المشاهد لذة متابعة الفيلم وهو يمضي أكثر من نصفه وليس أمامه سوى باي والنمر في عرض المحيط. لا بل إن رهان الفيلم سيكون هنا تحديداً، فالكائنات البحرية ستخرج علينا في البعد الثالث، والسمك الطائر سيمسي كما لو أنه يرتطم بالمشاهد، بينما سيخرج حوت هائل الحجم من جوف البحر في تنويع على جماليات الأزرق. لكن وقبل ذلك سيكون غرق السفينة قطعة بصرية هائلة كما في فيلم «تيتانيك». لكن هنا وبينما يقوم باي بالسباحة بين غرف السفينة يخرج عليه حمار وحشي يسبح في الماء، ويشاهد نمراً مختبئاً في قارب النجاة، وهذا حين يزأر ويخرج على باي سيزلزل صوته وخروجه عتمة السينما. يستدعي الفيلم حشد كل الحواس، وهو معد ليتغلغل فيها. فكما في الرواية سيكون الكاتب الباحث عن قصة، هو المستمع لما يرويه باي، ومن ثم علينا أن نشاهد تجسيد ذلك بصرياً. ويمكن تقسيم الفيلم إلى قسمين، الأول قبل غرق السفينة التي كانت تحمل باي وعائلته، والثاني رحلة باي في نجاته من الغرق. سيكون القسم الأول متروكاً لما يستعيده باي، حياته في مستعمرة فرنسية في الهند، اسمه الغريب (بيسين بتيل باي الذي أطلقه عليه عمه لحبه الشديد لمسبح باريسي يحمل هذا الاسم، والذي سيختزله إلى «باي»)، حديقة الحيوانات التي يملكها والده، وعلاقته مع الحيوانات، مروراً بحبه الأول وخلاصاته الروحية وهو يجرب الأديان ومن ثم يجدها جميعاً مجتمعة على جوهر واحد، ليصير هندوسياً ومسيحياً ومسلماً في آن، وصولاً إلى قرار والده الهجرة إلى كندا برفقة جميع حيوانات الحديقة. وكل ذلك سيأتي في سرد رشيق، وتقطيع مونتاجي ينتقل بنا من مرحلة إلى أخرى بإيقاع متتابع وقفزات زمنية سريعة، ودائماً يعود إلى الكاتب وهو ينصت إلى باي الذي أصبح في أواسط العمر، وليغيب ذلك مع غرق السفينة التي تحمل باي وعائلته، وتقاسم باي (سوراج شارما) قارب نجاته مع حمار وحشي، وضبع، وقرد، ونمر بنغالي، ولهذه الحيوانات التي لا يبقى منها في النهاية سوى النمر، أن تحمل في الفيلم بعداً تشويقياً، بمعنى أن صراعها في ما بينها ومن ثم صراع باي مع الضبع ومن ثم النمر - من دون تحميله أية مجازات - يشكل متعة بصرية بحد ذاتها. وحين ننتقل إلى المستوى المجازي فإن الباب سيكون مفتوحاً على مصراعيه أمام غوص في أعماق الإنسان وصراعاته. وليترك القسم الأكبر في الفيلم لتقاسم باي القارب مع النمر الذي يحمل اسم تشارلي باركر، وتعايشه مع هذا الواقع الغرائبي، كأن يبني عوامة يربطها بالقارب، ومن ثم تقاسمه الماء والطعام مع باركر، ومساعيه لتوفير الماء من المطر، واتباع نصائح النجاة الموجودة في كتيب يكون في القارب، ومن ثم ترويضه النمر وتعلقه به، ووصولهما إلى جزيرة سحرية. مؤثرات فاقعة النمر في الفيلم لن يكون حقيقياً إلا بنسبة 14 في المئة أما ما تبقى فمتروك لتقنية الكومبيوتر، كما للمشرف على المؤثرات البصرية في الفيلم بيل ويستنهوفر أن يخبرنا، كما هو الحال مع مشهد الحوت وغيرها من مشاهد كثيرة، أن كل ذلك تم خلقه بعد بحوث مطولة على الحيوانات وحركتها ومطابقتها بمنتهى الدقة، كذلك الأمر بالنسبة إلى تصميم مواقع التصوير سواء حديقة الحيوانات التي جرى تصميمها وفق عدد من حدائق الحيوان في الهند، من قبل ديفيد غروبمان أو حتى الجزيرة التي جاءت على اتصال برحلات استكشافية لجزر تيوانية يعرفها جيداً آنغ لي. تبقى نهاية الفيلم على اتصال باقتراح نهاية ثانية تجعل من تلك الحيوانات التي رافقت باي بديلاً عن أشخاص حقيقيين مثلما هو الحال مع الضبع الذي لن يكون إلا الطباخ المتعجرف (جيرار ديبارديو) الذي كان على متن السفينة، وليقول باي للكاتب «أي نهاية تختار؟»، بينما تستبدل النهاية في الرواية من دون أن تخيّرنا.