لفتت نظري قصة أبو شمرة مع (إبراهيم النظَّام)، والأخير دماغ لامع من أدمغة المعتزلة حين كانوا يدرسون أفكارهم في المساجد بدون حرج، ويمكن في هذا مراجعة كتاب أحمد أمين عن التاريخ العقلي للمسلمين، في سلسلة جميلة بعنوان فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام، ومما جاء في وصف هذا الرجل أنه اختط لنفسه طريقا فكريا مستقلا؛ فبنى مدرسة فكرية خاصة به، وكان يجري التجارب على الحيوانات، وتعرفت عليه من كتاب (تجديد التفكير الديني) لمحمد إقبال في محاولته فك لغز زينون الذي كان يقول إن أخيل لا يستطيع اللحاق بالسلحفاة، وأن السهم لا يطير! وهي ليست مزحة أو نكتة بل لغز رياضي حقيقي قد أتطرق له بسرعة في عمود خاص؟ فأتى بفكرة الطفرة وهي التي حومت حولها نظرية الكوانتوم من ميكانيكا الكم. المهم أحب أن أورد هذه القصة التي حكاها الجاحظ عنه في موضوع لماذا نحرك رؤوسنا وأيدينا حين نتكلم؟ وما دلالة ذلك وأين أصلها فقال الجاحظ يصف عالم الكلام (أبو شمرة) أنه كان يتحدث وكأنَّ الكلام يخرج من صدع صخرة، لاعتقاده أن البيان لا يحتاج إلى شيء خارجه؛ فلا يحتاج إلى التلويح باليدين، أوهزالرأس، والتأشيربالأصابع، والتلاعب بطبقة الصوت، وهي المعروفة بعلم السيمياء. كان يقول تكفي الكلمة بما فيها من صقل بياني ودلالة معنى أن تؤدي دورها، وكل زيادة انفعالية عليها ليست من أصلها، وعنصر ضعف في تكوينها؛ حتى فاجأه (إبراهيم النظَّام) ذوالعقل الجباريوماً؛ فناقشه واشتد عليه وأحرجه في تداخلات الأفكار ونظم الخطاب؛ فقفز من كرسيه وجلس إلى النظَّام وهو يخبط فخذيه قد علا صوته وكشر وجهه؟! يعلق الجاحظ على ذلك أن طلابه الذين جلسوا إليه لم يعارضوه، ولو فعلوا لانقلب الجوالعقلي البارد الى حياة وحيوية بحركة أياد وتعبيرات وجه وطبقة صوت. وهكذا فاللغة ثلاث وليست واحدة السيميائية بالإشارات، والصوتية بالنطق، والكتابة بواسطة المعنى المحبوس في الرسم على ثلاث طبقات من التعلم، وكما نرى فالكتابة أبسط المراحل وأكثرها سهولة. ومنه يتبين أن طبقة السلوك الأولى هي العميقة والكتيمة والراسخة والعفوية، والثانية دونها في العمق (التصويت)، وأما الثالثة (الكتابة) فهي عائمة سطحية، فلابد من الكشف الدقيق الموسع لهذه المراحل الثلاث للدخول الى التمييز بين اللغة الصامتة، واللغة الصائتة، واللغة المرسومة على الورق بالحروف. ومن هذا العلم نشأت البرمجة اللغوية العصبية.