نبرة الأصوات والمخارج الصوتية تختلف باختلاف العصور، على نحو ما تختلف الطوابع. والأمثلة على هذا كثيرة في السينما. ويكفي أن يشاهد المرء فيلمين من حقبتين مختلفتين ليلاحظ اختلاف أصوات الكلمات. وحاولتُ دراسة الأصوات، وكيفية نطق الفرنسيين الكلمات في القرن الثامن عشر. ودراستي هذه كانت تحدياً كبيراً. واستندت في استقصائي الى أرشيف شرطة باريس ومخطوطات القرن الثامن عشر. والبحث هو في مثابة رحلة سفر مشوقة تبدأ بوقوعي على كلمات محكية سجلها كتّاب المحاكم. فحاولت قراءتها، وسماع صوتها وتسجيله كتابةً. فالأصوات هي همسات التاريخ وجلبته. ومجتمع القرن الثامن عشر هو مجتمع غلبت عليه المشافهة وكلامها. ومكانة الأصوات، ورنتها ونغماتها، عالية. وفي باريس كانت الضجة تصم الآذان. وصدحت في المدينة ضوضاء صياح البائعين، والصراخ، والبكاء، والشجار، والإعلانات الملكية، والأغاني. ولم يكن يسيراً نقل أصوات الشعب، ونبرة كلامه. وعند قراءتي مطالعات القضاء الجنائي الصادرة في القرن الثامن عشر، وجدت قائمة إرشادات الى كتّاب المحاكم تدعوهم الى تشذيب اللغة المحكية عند نقلها الى عالم الكتابة والمكتوب. والتزم الكتّاب التوجيهات هذه، ولكنهم حرصوا على نقل ما يسمعونه نقلاً أميناً. وحافظوا على اللهجات المحكية. ووجدت أوراقاً كتبها أشخاص بالكاد يجيدون الكتابة، أو «فك الحرف»، على ما يقال في العامية. وهؤلاء ليسوا أميين أو مثقفين. وغلبت على كتابة هؤلاء اللغة الشفهية وعالم أصواتها. وهي مرآة الفرنسية المحكية. وعثرت على مصادر شعبية أخرى أتاحت لي الوقوف على فن تأليف الجمل، وإيقاعها، وإخراج الأصوات. ولكن بعث عالم اللغة المحكية الآفلة هو حلم لا يبلغ. وفي القرن الثامن عشر، بلغ عدد اللهجات الفرنسية المحكية بفرنسا 36 لهجة. وجمعت باريس أناساً ينطقون بلهجات إقليمية مختلفة. ولم يكن التواصل، من غير اللجوء الى مترجم يسيراً. ولذا، بدأت مساعي توحيد اللغة. وتعاظم عدد دراسات النطق وصرفه ونَحوه. وسعى المدرسون في تهذيب أصوات الأطفال من طريق تعليمهم أصول لفظ الكلمات لفظاً دقيقاً. ولم تكن عامة الناس تلفظ أحرف العلّة (الصائتة)، ولا تتأنى في لفظ الأحرف الصامتة. وتهددت اللهجات الإقليمية وحدة الأمة الفرنسية. وفي نهاية القرن الثامن عشر، أراد الثوريون توحيد البلاد تحت لواء سيادة الشعب. وعليه، دُعيت عامة الشعب الى الكلام بلهجة واحدة، واللهج بلسان واحد. وحصة النساء من أصول تهذيب الأصوات كبيرة. ونظر الى أصوات النساء على أنها ناعمة وأموية وجذابة وغاوية أو جشاء وجهورية. وربط هذا الضرب من الأصوات بصوت الشيطان. وفي تقارير الشرطة أن أصوات النساء سُمعت في أعمال الشغب. ولكن عالم الذكور استخف بصراخ النساء وأصواتهن، ورأى ان صراخهن هو «قرقرة هاذية» فحسب. واستمر الميل الى شجب أصوات النساء الى اليوم. ويتسم صوت النساء بسلطة كبيرة. فأصواتهن تهدئ جلبة الشجار في الكباريهات. * مؤرخة، «لوتان» السويسرية، 26/10/2009، إعداد منال نحاس