لا أدري سببا للهيئة التي يتخذها الصراع المتواصل بين التيارات الفكرية في مجتمعنا، خاصة عندما تتسلح بالأقنعة والرموز بديلا عن المواجهة الصريحة والصادقة. أقنعة ورموز، يتخفى وراءها المختلفون. فهي أقرب للمصارعة «الحرة» منها إلى الحوار أو الجدل الفكري. ولا أدري سببا لتسمية المصارعة بأنها «الحرة» فقد كنا ننعتها بهذا الوصف منذ أيام الأبيض والأسود وتعليق عبدالرحمن الراشد (المعلق الرياضي وليس الصحفي). كنا أطفالا مشدودين للشاشة وكانت الدهشة تمسح مختلف الوجوه شيبا وشبابا، كيف يتم هذا الصراع العنيف والدامي بين طرفين وبمجرد الانتهاء يقوم المتصارعون لتحية الجمهور؟، كنا نشك أن كثيرا من التمثيل والاتفاق المسبق، «مفبرك» بطريقة ما، لكننا كجمهور نتحاشى فضح الخديعة، حتى لا نفقد تلك الإثارةاللذيذة والحماس المغموس بالعنف والقسوة. كأنما اتفاق ضمني بين جميع الأطراف على ضرورة الاستمرار في اللعبة، دون الكشف عن قواعدها علانية. المصارعة ما زالت مستمرة على الشاشات، وتحولت الى مهرجانات عالمية، ونجوم وأبطال، وكم تطورت بل وتحولت هذه «الرياضة» وتبدلت أدواتها بأحدث التقنيات التكنولوجية، ولكنها لم تتخلَّ عن عناصر أساسية: العنف، الأقنعة والخدع المعدة مسبقا. الحوار الفكري بين التيارات الثقافية كذلك لم تتغير إلا وسائطه الحديثة، أما الأقنعة والخديعة والعنف فهي أسس لا يمكن التنازل عنها، ما دام جمهور مقهور، يخفف من طاقته المقموعة، ينفسها عبر متصارعين، غالبا بأقنعة، ونادرا ما نحاول أن نكشف عن الزيف أوالخديعة، حتى لو بان سنامها. ماذا لو نسرد عناوين سريعة لتكون أمثلة واقعية على المصارعة الحرة، مثل: موقعة البهو، غزوة المبتعثين، معركة كلية اليمامة، المسلسل الطويل للهيئة، والكثير الكثير... فقط علينا أن نستعيد رؤية الشريط بطيئا وبدون مؤثرات. القضايا الاجتماعية ما هي إلاّ رمز وإشارة، فكل النقاشات والصراعات الرافعة لقضايا: المرأة، الخصوصية السعودية، المحافظة والحداثة، الليبرالية والعقدية... وغيرها من عناوين يتخفى خلفها صراع ينطلق جوهره من السياسي أصلا، ومن ثم يتقمص أقنعة ورموزا، وبما أن السياسة هي دنس متفق عليه، فبأي منطق يخوض فيه المقدس؟! كلما دار حوار بين طرفين، نجد استدعاء للحجج الدينية، بمن فيهم الطرف الليبرالي (العقلاني) الذي يتكئ في جوهر رؤيته على فصل التفسيرات الغيبية عن قضايا المجتمع، هكذا نجده برغبة واعية منه أو غير واعية يلبس قناع نقيضه ويتكلم بمنطق مخالفه، وكأن كلًّا منهما قرين للآخر.وفي المقابل يزايد المحافظ على الجوانب العلمية والحقوقية، والقوانين الراعية لمصلحة الإنسان والتي هي من صميم الليبرالية، وفي محاولات يائسة يعيد هذه المحدثات إلى مرجعيته الدينية. لماذا لا يكون الحوار صريحا، بلا أقنعة، ولا تزييف؟ هل نتوقع لحواراتنا الفكرية أن تسلك طرقا واضحة، يتقبل كل طرف مخالفيه، وكل يدافع عن حق الآخر في السير- جنبا إلى جنب – نحو المستقبل؟ ليتنا نتذكر تلك اللحظات المشحونة بالمشاعر عندما يتم نزع قناع مصارع على الحلبة، وكأنما الرمز فيها قمة الاكتشاف لهوية مستترة. أتوقع أن حلبتنا المحلية اقتربت من الإعلان عن «مصارعة ليست حرة» ستسقط فيها الأقنعة وتنكشف أمامنا خدعها.