باستثناء بضعة أسماء قليلة، لم يبق اسمٌ فاعل في صياغة الخطاب التياري السعودي لم يشارك فعلياً في موقع التواصل الاجتماعي الشهير (تويتر). رموز التيار الإسلاموي بأطيافه المختلفة شكلوا حضوراً بارزاً في تويتر بعدد هائل من المتابعين الذي يعكس الواقع الاجتماعي. رموز التيار الليبرالوي بأطيافهم المختلفة أيضاً وأجنداتهم المشتتة جاؤوا كذلك ليحجزوا موقعاً في تويتر يتناسب مع حراكهم الاجتماعي الذي يزداد تأثيراً في الآونة الأخيرة بعد ركود طويل. نتيجة هذا الحضور المزدوج بطبيعة الحال هو افتتاح ميدان جديد للصراع التياريّ على مرأى ومسمع من عصفور تويتر الأزرق الوديع وبضعة ملايين من المتابعين الإجماليين. قد يبدو هذا محبطاً للوهلة الأولى. أعني أن يتحول تويتر إلى مجرد ميدان آخر للصراع يدشنه الطرفان بنفس أدواتهم التقليدية وسلوكهم المعتاد. فيدخل الإسلامويون إلى تويتر لتغذية أطماعٍ دعوية أو خوض معارك الفضيلة ويدخل الليبرالويون إليه من أجل استعادة الذات التيارية ومناهضة الهيمنة الثقافية. ولكن شيئاً ما في (تويتر) قد يخفف من هذا الإحباط ويبشر بتحوّلٍ إيجابي في طبيعة هذا الصراع الذي استهلك الطاقات الفكرية والمعنوية للملايين من السعوديين، وربما يفتح أبواب تحوّل الصراع من طاقة مهدرة إلى وقودٍ متجدد. ألا وهو فرصة التداخل المباشر مع الخطاب التياري (أثناء) صياغته وليس بعد (اكتماله). الخطابات التقليدية للتيارين المتصارعين صيغت – في عهد ما قبل (تويتر) – بمعزل عن بعضهما. الخطاب الإسلامويّ يتشكل في دوائر ضيقة من النخب المصطفاة والفاعلة والمؤثرة عبر القنوات المتاحة من منابر وإعلام ودروس ومناهج، دون تفريق بين خطابه الثقافي الحقيقي وبين نزعته السلوكية للهيمنة، بينما الخطاب الليبرالويّ يجاهد ليلملم شتات (ردود أفعاله) اللحظية على خطاب الإسلامويين التعبويّ آملاً أن يتمكن من توحيدها في خطاب مستقل فتخونه فردانيّة رموزه وطبيعتهم المستقلة في الحراك. على هذه الحال، ظلّت فرص اللقاء بين التيارين تصادمية لأنهما يلتقيان بعد أن اكتملت صياغتهما فعلياً بمعزل عن الآخر. هذه العزلة في مراحل صياغة الخطاب التياري هي التي تكرس ما يشبه التفاجؤ أو التظاهر بالتفاجؤ حين يحدث لقاء بينهما بأن ثمة تيار آخر في الجوار (مثلما يحدث في جلسات الحوار الوطني أو ملتقيات المثقفين عادة)، فيتعمّد الخطابان تجاهل وجود الآخر كلياً (كما يفعل الإسلاموي مع الليبرالوي) أو تجاهل المقومات الأساسية لخطابه (كما يفعل الليبرالويّ مع الإسلامويّ). مثال ذلك عندما يتصرف الإسلامويون وكأن التيار الليبرالوي تيار طارئ عابر غير منتم وشاذ عن السائد الاجتماعيّ، متعللين بحداثة جذوره الثقافية على المنطقة، متجاهلين أن الليبرالية ليست قومية أو عرقاً تمتلك حق الحضور من عمرها التاريخي بقدر ما هي قيمة فكرية تكتسب حق حضورها من حداثتها ونقدها للسائد العميق المتجذر من القيم الثقافية وانتصارها للفرد على الثقافة في النهاية. ومثال ذلك أيضاً عندما يحاول الليبرالويون مناقشة الإسلامويين في صلب قالبهم الفكريّ بسطحيّة ودون تأهيل وكأنهم يهدفون إلى تغيير خطاب الآخر وليس قبوله في سياق تعدديّ كما تشترط الليبرالية، مما يؤدي في حقيقة الأمر إلى توطيد قناعة الإسلامويين بأن الليبرالويون إنهما هم حالة من الجهل والضلال ولا أكثر. كلا السلوكين – تجاهل الحق في الوجود أو تسطيح البنية الفكرية – شائعان في الصراع التياري السعودي. ومن أسبابه – كما أسلفت المقالة – تشكل خطابيْ التيارين كلٌ بمعزل عن الآخر. تويتر يمنح التيارات فرصة لكسر هذه العزلة. الظروف السياسية والتغيرات الاجتماعية المحيطة ترهص بأن كلا التيارين يعملان على تجديد خطابيهما لمواكبة مستجدات ثلاث: عصر المعلومات الذي يمنع احتكار المعلومة وتكريس الأحادية، والتغير الديموغرافي في أعمار المجتمع السعوديّ، والنيّات السياسية تجاه خطاب وطني أكثر تعددية وأقل تشدداً. كلا التيارين أبصر هذه التغيرات واتخذ – من خلال بعض رموزه بطبيعة الحال وليس كلهم – خطوات واضحة في طريق تجديد الخطاب. المثير للاهتمام والتفاؤل هذه المرة هو أن هذا التجديد في الخطابين سيتم في ظرفين مختلفين عما سبق. الأول، أنه تجديد متزامن مع بعضه، فلم يسبق خطابٌ خطاباً فيبدو الأول وكأنه أصلٌ أبديّ ويبدو المتأخر وكأنه بدعة طارئة. والثاني، أنه تجديد شفاف يحدث في أجواء تتيح التداخل النقديّ المباشر بين الخطابين، فيتشكلان – حتى وإن لم يتفقا بطبيعة الحال – وهما واعيان بحتمية وجود الآخر وعدم جدوى تجاهله. يجدر بالذكر قبل ختام المقالة أن تويتر – بوصفه أداة تواصل اجتماعيّ – ليس وحده القادر على إحداث تغييرات جذرية في السلوك الثقافي للتيارات السعودية، ولذلك علينا أن نكون حذرين لئلا نسند إليه دوراً أكبر من حجمه. فهو في آخر المطاف مجرد موقع على الشبكة، ولكنه تجسيد للحالات النادرة التي تؤثر فيها الإداة على المؤدي، وتتجاوز استخداماتها الحالية كأداة تواصل إلى أداة تأثير كما فعل الراديو والتلفزيون بالمجتمعات التي ظهرا فيها أول مرة. فتويتر يذكرنا فقط بوجود آلية أكثر تفاعلية في الحوار بين أطياف المجتمع ولكنه لم يخترع بنفسه هذه الآلية.