بين الإبداع والنقد لأحمد بوقري سكة قطار ينزل مرة في محطة القصة القصيرة وفي مرة مقالة فكرية أو نقدية، عاصر ذورة الثمانينات في الإنتاج الإبداعي سواء في الشعر والقصة القصيرة والمسرح المكتوب وبعض الروايات القليلة إضافة إلى نشاط الملاحق الأدبية في حقول الثقافة، تابع نشر مقالاته وقصصه، ثم أصدر له منتصف التسعينيات مجموعته القصصية الأولى «خريطة للحزن والزيت» (1994) ثم جمع كثيرا من كتباته النقدية في كتابه الأول «الريح والمصباح» (1999). الآن صدر له عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي بالدمام «السيف والندى: ممارسات في النقد الحضاري».. وإلى الحوار.. * أتأمل حالة الثنائيات في ذهنك الإبداعي والفكري، خاصة، عندما أستعرض عناوين كتبك «خريطة للحزن والزيت (قصص، 1994)، الريح والمصباح: مقاربات في الفكر والإبداع (نقد، 1999)، السيف والندى: ممارسات في النقد الحضاري (نقد، 2010)، ومجموعتك القصصية الثانية الصادرة قريباً «إيقاعات الجوع.. موسيقى العطش». بين علاقات التضاد والصدام والتساوي في الأسماء والصفات. هل تنعدم حالة النسبية في أمور لا يمكن القطع بها كما أن للإبداع والفكر وجوه لا تعطي معانيها المباشرة؟ وكيف ترى هذه الثنئايات في حالتك الإنسانية الأخلاقية والسلوكية والمزاجية؟ - بدءاً من مجموعتي القصصية «خارطة للحزن والزيت» وكتابي النقدي الأول» الريح والمصباح» الى كتابي الأخير «السيف والندى». استهوتني هذه العتبة العنوانية الثنائية كثيراً لسببٍ ما، لم أكتنه محرضاته النفسية والذهنية لا أدري ربما ترجع هذه الثنائية الى مستويات التعبير المتماوجة لدي عن جدلية الكتابة وسجاليتها في مفهومها الجوهري لدي.. هذان المستويان المتقاطعان هما في الحقيقة وحدة رؤيوية/ معرفية متماسكة كما أزعم، تجمع في تضاعيفها النقيضين أو المتناغمين.. ففي «الريح والمصباح» تبدو جدلية التمرد والتنوير تماماً كما تظهر في نفس الوقت سجالية الصراع الفكري بين الظلام والنور، بين عسف الريح السوداء وسكون النور المنسكب الهادئ.. أو كمتناغمين بين الريح/ الثورة والنور/ الكتابة كمتلازمين فاعلين، هذه الجدلية/ السجالية هي ما أعطت للكتابة في هذا الكتاب ذاتيتها الصارخة المنطلقة من بعدها الداخلي ومقاومتها لواقع خارجي جائر ومحاصر وفاسد، خلافاً للكتابة في «السيف والندى» فهي هنا تنبثق من موضوعها الخارجي.. كاشفة وفاحصة لذاتٍ أبداعية جمعية متماوجة بين الصعود والهبوط، بين البناء والخراب، بين خلاصها الفردي المحاصر وبين مكابرتها التاريخية العمياء، فتبدو جدلية الغضب والحنو.. أو سجالية الانفصال والاتصال ثيمة جوهرية للسياق الذي مضت فيه مضامين الكتاب النقدية والفكرية. لكن ما أريد أن أفصح عنه هنا هو أن هذه الثنائية في حقيقة الأمر لا تنم عن ازدواجية في الرؤية او تشف عن توفيقية مضمرة في النظر والتوصيف والتحليل، بل في زعمي هي ليست الا ثنائية «توحيدية» إذا جاز التعبير.. ثنائية جدلية تبحث عن ما هو نسبي فيما بين النقيضين او المتناغمين، وفيما هو ظاهرٍ او منقسمٍ او متشظ. * بين كتابك النقدي الأول «الريح والمصباح» (بيروت، 1999) وكتابك النقدي الجديد «السيف والندى» (الدمام، 2010) ثمة تغاير وتنوع في المواضيع من مصاعب العقلية العربية في العقلانية والغزو الثقافي وثقافة الاستهلاك، والموروث وظاهرة العنف والانفتاح والاستلاب، والمعارك الثقافية، وعلمية النقد، والترجمة، وأزمة الإبداع والنقد التطبيقي منتقلا إلى شؤون المثقف دوره والموقف منه، والخطاب الديني، والنقد الحضاري، وتأويل مفهوم الليبرالية، والتأملات في النماذج والشخصيات الحضارية وسواها، مر عقد كامل بينهما إلا أنه مر اكثر من عقدين من الممارسة الكتابية، ماذا تغير في أحمد بوقري؟ ماذا كسبت وماذا خسرت؟ - زمن الكتابة في «الريح والمصباح» استمر عقداً كاملاً وبينه وبين كتاب «السيف والندى» عقد كامل آخر.. وكما قلت في مقدمة كتابي الأول بأن الموضوعات والرؤى والتصورات واللغة المفكرة أيضاً كانت دوال على مرحلتها وزمنيتها الواقعية، وكان هناك تفاوت خطابي بل وتنقلُ على طرفي قوس مشدود بين خطابين فكريين متصارعين، تنقلُ شكل لي ارهاصاً لانتقال غير واضح المعالم بين صرامة النسق وأحادية التصويب الى تفككه وتشظي انسراباته بين التخلص من الأفق الجمعي الذهني الى فردانية الوعي والتفكير وتحررهما من حصاراتهما الخارجية والتمتع باستقلاليتهما. في «السيف والندى» كما أزعم أيضاً حصل تطور كبير في نسق الخطاب ولغته وفي طريقة توسلاته للمضامين، فيه حاولت أن أعجن لغتي المشذبة بالفكرة.. وأضبط معايير الدلالة اللغوية مبتعداً عن الاستطراد والحشو اللفظي. والأهم والأجدر بالإشارة اليه في ميزان الحديث عن الكسب والخسارة ميزان الكتابة والبوح الإبداعي هو ماتم التخلص منه من ثقافة الأجوبة الناجزة الحدية ثقافة اليقينيات السياسية والفكرية. ثقافة الحتميات والنوم على وعودها وأوهامها التي ركنت اليها مديداً.. الى محاولة القبض على ثقافة الأسئلة واستيلاد اللايقين.. هل كانت تلك الفترة ضرورة للمرور بهذا «الوهم الزمني» لكي ينتج هذا الحراك في السكون الفكري؟.. في اعتقادي أن عيش المثقف النقدي في حالتنا العربية في هذا الوهم المؤدلج ردحاً من الزمن الساكن كان سبباً وجذراً هاماً لحصاد اللحظة المر الذي يقف على قمته مثقفنا العربي في هذه اللحظة الراهنة. وما كسبته من زمن الكتابة هذا هو تخلصي من بقايا هذه الأيدولوجية وأوهامها، وانتصار قلق المعرفي على طمأنينة الأيدولوجي.. فخرجت من العتمة الأيدولوجية التي كانت تحجب ما أريد أن ارى الى أن أرى ما أريده أنا متى ما أريد وكيفما أريد.. ولعل شاعرنا الفذ الراحل محمود درويش عبر عن هذا الهاجس بشفافية مرتفعة: «أرى ما أريد من الليل.. أني أرى نهايات هذا الممر الطويل على باب احدى المدن سأرمي مفكرتي في مقاهي الرصيف، سأجلس هذا الغياب على مقعدٍ فوق احدى السفن» * طرحت في كتابك الجديد «السيف والندى: ممارسات في النقد الحضاري» (نادي المنطقة الشرقية الأدبي، 2010) اكثر من مقالة حيال دور المثقف وعلاقته الصراعية بالمجتمع، وواجبه في التفكير والمساءلة، والمآزق المعترضة دوره مثل التسلطات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والمكونات الداخلية للبنية الثقافة، وانفجار عالم الاتصال الشبكي وفوضاه. كأنما اليأس يعترضك في إنقاذ المثقف. كيف ترى دورك بين الإبداع في القصة والكتابة النقدية كمثقف معني بالشأن العام؟ - لا تنفصل الكتابة الإبداعية بما هي كتابة منتجة للقصة او القصيدة او اللوحة التشكيلية عن الكتابة النقدية بما هي في الحقيقة إبداع موازٍ منتج للرؤية النقدية الكاشفة الفاحصة المضيئة لجنبات النص الإبداعي ومخترقة لسقوف معماره الفني، وبما هي منتجة ومبدعة لمنهج تلقي من داخل النص المبدع لا من خارجه. هاتان الحالتان من الكتابة حين تسكنان داخل النسيج الواحد.. داخل الوحدة الابداعية واقصد بها هنا المبدع/ الناقد أو الناقد/ الشاعر لا تنفصلان فيما تشرئب اليه من أحلام او أشواق او تشوفات وفيما تحملان من خطابٍ واحد في نسيجهما، الفرق هو أن الناقد/ المبدع معاً يعيش حالة ابداع النص وتلقيه النقدي المحايد في آن. في حالتي الشخصية تأتي الكتابة النقدية كحالة أولى وأساسية وملحة.. لأن الشاشة الذهنية الداخلية لدي أنبنت على هذه المحرضات النقدية.. في هذه الحالة الكتابية كأنني أدخل الى معملٍ ذهني بارد أستخدم فيه كل أدواتي المعرفية ومنهجي الذهني الصارم ومخزون المعلومة التاريخية والسياسية والفلسفية لكي يعمل الكل في انتاج كتابة/ تلقي ذات قوانين وضوابط علمية صارمة أكانت للنص الابداعي او الفكري او الحياتي.. أما الكتابة الابداعية فهي عندي كحالة استراحة في حديقة من الرؤى البوحية والأفكار الطليقة والتخييلات اتنفس في فضاءها اريج البوح الابداعي المنسكب في القص والسرد والحوار كوجهٍ آخر للخطاب الفكري المهموم باللحظة والراهن الذي تنبني عليه الحالة الكتابية لدي برمتها في نسقها ومضمراتها وما تؤول اليه من دور جوهري. * تتوزع أطروحاتك في المقالات والدراسات بين ذهنية الناقد والمفكر، باعتبارهما من سلالة المثقف الذي انتشرت مؤخراً تساؤلات لبعض مؤرخي الثقافة ومنتجيها بأنه انتهى مثل مقولة لعبدالإله بلقزيز أو اختفى كما يرى فرانك فوريدي. إلى أي حد يمكن أن يتطور دور المثقف في كل عصر؟ - المثقف وأعني به المثقف النظري/ الورقي، او العملي/ الشفاهي معني بمهمتين حيويتين من صميم مسئوليته الحضارية والتاريخية وهما جذرية النقد وأحلام التغيير. النقدية/ الجذرية منهج معرفي وتصور تحليلي للواقع وللراهن حين يمتلكه المثقف يزيح عن هذا الواقع حجب وسجفٍ كثيرة فتغوص فيه لكي تكتشف علله وتشوهاته وانحرافاته.. أما التغيير فيظل مبتغى وحلماً قابلٍ للتجسد لكن لا يملك المثقف مفاتيحها كلها وحده.. بمعنى ان النقدية التي ينطوي عليها المثقف الحقيقي ولا أقول المثقف العضوي، لأن مسألة العضوية التبست في لحظتنا الراهنة وصارت من النسبيات او المنسيات في زمن العولمة الثقافية والأنترنت والبلاك بيري. النقدية هذه لامعنى لها اذا لم ترتبط بحلم التغيير، بل اذا لم تؤول في لحظةٍ مؤاتية الى تغيير حقيقي للراهن.. هذا التغيير الذي يؤسس ويراكم لمستوى آخر من تغيير لاحق.. سلسلة التراكم التغييري غير المنتهية هي التي تحقق وتؤسس لحضور الدور المتجدد للمثقف وهي التي أيضاً تحقق تغاير مفهوم الدور الذي يلعبه المثقف في زمنٍ عن زمنٍ آخرومن مرحلة ظرفية لأخرى. * في المقالة التي اتخذها عنوان الكتاب الفرعي «ممارسات في النقد الحضاري» تشعرك أنك تنتصر لمنهج وأدوات النقد الحضاري عند المفكر الفلسطيني هشام شرابي، مقابل قصور ومحدودية النقد الثقافي بحسب عبدالله الغذامي، بينما هناك مثال أرحب في النقد الثقافي عند رايموند وليامز. هل تعتقد أن اختلاف المرجعيات والخبرات إضافة إلى التطور الذاتي عند كل من شرابي والغذامي هو ما انعكس على نوعي نقديهما منهجاً وأدوات وتعريفا؟ - أنا قلت في مقالتي أيضاً أن النقد الثقافي ارحب بكثير من إسهامات عبدالله الغذامي المحدودة، وإن كان يزعم أنه اجترح فتحاً نقدياً لاسابق له.. وبالنص في كتابي أوضحت بأن مفهوم النقد الثقافي الذي يكاد أن يستأثر به الغذامي تنظيراً أو تجريداً ليس بجديد في اشتغالاته العربية والعالمية فكتابات مهمة لأدوار سعيد ومحمد أركون، ونصر ابوزيد، والطيب تيزيني، كلها ساهمت وتوسلت مفاهيم النقد الثقافي في تحليل الظاهرة الفكرية والثقافية بل ان كتابات شكري عياد ولويس عوض، ومحمود امين العالم، توسلت ايضاً مفاهيم النقد الثقافي لا الأدبي في تحليل الظاهرة الابداعية الا أن ناقدنا عبدالله الغذامي - للأسف - لا تعنيه هذه التراكمية الثقافية السابقة عليه وكثير مثله من مثقفينا نقاداً ومبدعين ينكرون هذا التراكم الابداعي والمعرفي ولا يرون الا اللحظة الابداعية او الفكرية التي اجترحوها كلحظة غير مسبوقة وهو ما أعده مثلبة في العقل قبل أن يكون نخراً في الذاكرة. أعود وأقول إن النقد الحضاري لا يقطع مع النقد الأدبي ولا النقد الثقافي بل يستفيد من امكاناتهما الإجرائية ومن انجازاتهما وهو ما تشهده كتابات المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي بما انطوى عليه من روحية المثقف الكوني وما في إهابه من دمث أخلاقي ومعرفي في آن. فالنقد الحضاري الذي عني به وأضاف اليه من ابداعاته عني بنقد المجتمع ونقد الواقع المعاش، وعني بنقد الممارسات والسلوكيات والأيدولوجيات والخطابات وهو يذهب مباشرةً الى النقد الكلي لأي خطابٍ أكان أصولياً او علمانياً أو قومياً من أجل استخلاص مضمونات الحرية الاجتماعية فكراً وسلوكاً.. كما عني أيضاً بنقد البنى الفكرية والاجتماعية والادبية وفحص أنساقها وما تضمره من دلالات، وأبدع هشام شرابي نظرياً عندما كشف البنية البطركية/ الأبوية في المجتمع العربي فنقدها نقداً تاريخياً وحللها لغوياً ونفسياً فأشار الى أن هذه البنية تشكل عائقا وعقبة كأداء في تطوير السلطات السياسية العربية والأيدولوجية وبالتالي عائقاً في تغيير السلطة التربوية والدينية حتى اللحظة في واقعنا العربي المعاصر. * قيمة الوفاء لقامات ثقافية تكررت في كتابيك النقديين تناولت أحمد بهاء الدين وحسين مروة (الريح والمصباح، 1999) وعبدالله الجفري ومصطفى محمود ومحمود أمين العالم (السيف والندى، 2010). حدثنا عن علاقاتك مع هؤلاء المثقفين والمبدعين. - الكاتب والمفكر والمبدع الحقيقي لايمكن أن يختبئ وراء اصبعه ويقول لا أرى أحداً حولي او لا لأحدٍ من حولي فضلُ علي.. ! أن قيمة الثقافة في بعدها الأخلاقي والإنساني هو قيمة الإعتراف بالآخر.. بالسابق واللاحق.. قيمة الوعي المرهف هو أن تشعر أنك امتداد لمن سبقك او لمن حولك .. فأنا لست من دعاة قتل الأب كما يفعل مثلاً شعراء قصيدة النثر هذه الأيام .. فأنا أرى نفسي امتداداً لمن قرأت لهم وأحببت وتعلمت منهم أكانوا قد عاشوا معي على تراب واقعي أم كانوا خارج الوطن.. كما أرى نفسي امتداداً - ربما - لمن سيأتي بعدي ولا ينطوي هذا القول على أي سمة من سمات الغرور او الأنوية.. وهو ما كنته حين كتبت عن هذه القامات الفكرية والابداعية التي تفيأت تحت ظلالها في ظهيرات القراءة المنتجة وقطفت بعضاً من ثمارها اليانعة.. بعضُ منهم علاقاتي به لا تتعدى حدود دفتي الكتاب الذي قرأته له كأحمد بهاء الدين وحسين مروة ومصطفى محمود، وبعضُ منهم تجاوزت علاقتي به دفتي الكتاب ورفقة الكلمة فأصبح بيني وبينه شيء من التاريخ الشخصي والحميمي والعلاقة التاريخية في بعدها الصداقي والفكري. فعبدالله الجفري، كنت مولعا في شبابي وبداياتي بقراءته وتقليده ايضاً، ومعرفتي به جعلتني أخرج عليه وأتجاوزه في حبٍ.. ألتقيت به في لقاءاتٍ قصيرة وقليلة، لكن للحق شخصيته المحبة والمتواضعة كانت معلمة لي ومثرية لتربتي الابداعية المتعطشة آنذاك لمن يوليها رعايته وهذا ما كان. أما علاقتي بمحمود أمين العالم فهي تاريخ شخصي وعلائقي قصير لكنه حميم وحقيقي برغم الفارق الكبير في السن بيني وبينه، فقد كنت في زياراتي السنوية للقاهرة أضعه في قائمة زياراتي بل أنني لا أستطيع أن أغادر أرض الكنانة قبل أن أراه وأتضوع بأريجه في حديقته الفكرية وأستمتع برؤية ابتسامته المتفائلة التي كانت تنطق فكراً قبل أن تلتمع سحراً.. ابتسامة ممتلئة بكونية الثقافة ورحابة الذهن. وبعض من كتبت عنه كحسن السبع.. فهذا الشاعر الأديب الأريب هو صديق الروح ورفيق الرحلة الابداعية.. قاسمني وقاسمته ليس الحرف والكتاب.. بل الليل وسهره ومتعه.. كما تقاسمنا ضياء قنديل المحبة وزيته، ولي عنه وله حديث شجي طويل سيكون لاشك يوماً ما مادةً لكتابٍ وحده. * في المشهد الثقافي السعودي، وربما على مستوى الجزيرة العربية، يكثر المبدعون والمبدعات في حقول الآداب والفنون في النموذج التقليدي، ويكثر الأكاديميون في اختصاصات العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولكن ظلت شخصية الفنان والأديب كذلك الناقد والمفكر تخرج علينا بشكل غير متوقع من خارج الجامعة ومن خارج الحقول المألوفة غير أنه القليل من تلك المواهب المتميزة حقاً احتضنتها البيئة المحلية إما واجهتها بالقمع والتحجيم وانتهى أمرها سواء في الداخل أو الخارج (نموذج المثقفين والمثقفات في السعودية في الستينيات والثمانيات) وإما هاجرت إلى أماكن أخرى ولم تتوقف (عبدالله القصيمي وعبدالرحمن منيف وسميرة خاشفجي وثريا التركي) وإما بقي وجودها خارج السياق المحلي وإنما فاعلة عربياً (قاسم حداد، سيف الرحبي، تركي الحمد..). كيف تفسر هذه الحالات؟ - ياصديقي لنكن واقعيين وصريحين ودقيقين بما فيه الكفاية.. الابداع الحقيقي والبحث العلمي الجريء والابداع الفكري الحر المستقل لم تنتجه الجامعات عندنا داخل أسوارها حتى الآن مع وجود بعض الاستثناءات بالطبع.. فليس كل اكاديمي يحمل حرف الدال على كتفيه مبدعاً او مفكراً او باحثاً شجاعاً، ما تخرجه الجامعات الآن ليس الا مشاريع موظفين.. أشباه مثقفين، عليهم حماية الجهاز الأيديولوجي للمجتمع والمنظومة القيمية الثابتة وصد النوافذ امام «الغزو الثقافي» وتدفق الأفكار الهدامة لا الضالة.. مهماتهم تنتهي عند أعطاء الدروس الروتينية البليدة غير المبدعة داخل فصول الدراسة والاستثناء الذي ذكرت أقصد به على سبيل المثال: حالة المفكر تركي الحمد، وخالد الدخيل، واحمد بغدادي في الكويت ونصر ابو زيد في مصر، فهؤلاء ضاقت بهم جدران جامعاتنا العربية فضاقوا بها لذا فقد قذفوا خارج أسوارها لكي يركضوا ويتنفسوا في فضاءات حرية الابداع، ولا تفسير علميا لهذا الواقع المزري للحالة الفكرية والابداعية في بلداننا الخليجية الا بربطه بالحالة السياسية النافرة للنهوض الثقافي المستقل والجاذبة للحالة الدينية العامة والمتجاوبة مع متطلباتها وإكراهاتها ورؤيتها الضيقة للمتغيرات، والهوة العميقة التي تتسع بينها وبين الحالة الثقافية المتململة وتلك العلاقة المقطوعة بين السياسي والثقافي وتسيد السياسي وتفرده في القرار الاجتماعي بل وموقفها المتوجس للحراك الاجتماعي الكامن الذي لم تتحدد اتجاهاته بعد وان كانت الحالة السياسية العربية مازالت قادرة على التحكم فيه وجذبه نحو دوائرها من اجل تحقيق ديمومة غير منظورة لاستقرارها وحضورها.