أبعد من ضبط النفس، تعكس الصورة مظهراً آخر في الاستسلام لمشاعر أحقاد تنامت على ضفاف نزاع الصحراء. وبالقدر الذي ركنت القوات المغربية الى لجم أي تصرف انفعالي، وهي بصدد تفكيك خيام نازحين صحراويين، نصبت تحت شعار مطالب اجتماعية في السكن والعمل، بالقدر الذي لم يكن مقبولاً أن يلجأ محتجون غاضبون الى نحر ضحاياهم. غاب كل شيء في نزاع الصحراء، وحضرت الصورة قوية، كما لم تقدر أي بلاغة سياسية أن تختزل حقيقة ما حدث. بعض الصحافة الإسبانية استعار مشاهد أطفال فلسطينيين داستهم عربات القتل الإسرائيلي وقدمتهم على أساس أنهم ضحايا تدخل القوات المغربية، وأشلاء ضحايا جريمة أخلاقية في الدارالبيضاء احتلت مواقع الصدارة على أعمدة صحافة زعمت أنها من فعل «عدوان» مغربي في الصحراء. خجلت بعض الصحافة الإسبانية واعتذرت، فيما علقت بالأذهان صورة ناشطة صحراوية كانت تذرف الدموع، وادعت أنها تعرف أسر أولئك الأطفال الفلسطينيين، لكن مع سبق الإصرار في ارتكاب خطأ في العنوان، حين ادعت أنهم كانوا من بين ضحايا مخيمات العيون، غير أن أعضاء مجلس الأمن الدولي، وهم يرصدون وقائع شريط مصور لوقائع أحداث العيون، خلصوا الى إدانة العنف، ورفضوا تشكيل لجنة تحقيق. فكانت رسالتهم درساً بليغاً لناحية تأثير الصورة، إذ تقدم الحقائق كما هي على الأرض، وليس من خلال تحميلها أبعاداً سياسية الفائدة لهذا الطرف أو ذاك. طغى الجانب الإعلامي في إدارة حرب نفسية بكل المواصفات والدوافع. ومع أن كثيراً من أنماط الخديعة لا تغير من هكذا حروب، فإن الخاسر الأكبر في ما حدث، هو تقديم ذلك الوجه القبيح للصراع، وليس لأي طرف مهما كانت القضية التي يدافع عنها أن يلجأ الى مثل هذا السلوك الوحشي الذي ابتدعته تنظيمات متطرفة خارجة عن القانون. في مقابل الاستسلام الى المشاعر وتركيب الصور غير الحقيقية لإقناع الرأي العام الإسباني بشيء لم يحدث في الواقع، حرص المغاربة هذه المرة على توثيق ما جرى بالصوت والصورة. ومع أن الرأي العام المغربي لم يتقبل معنى أن يُنحر بعض أفراد قواته بتلك الطريقة الوحشية، فقد ترسخ اعتقاد بأن القوة تتحول الى ضعف، إذ يتعلق الأمر بالحرص على أرواح غاضبين، ردد المغاربة قبل تدخلهم أنهم ليسوا في وضع الاختيار الحر لاستمرار الحوار الذي كاد يحقق أهدافه. كافة الاستقراءات تدل على أن نزاع الصحراء دخل مرحلة جديدة. ولم يكن وارداً أن ينتقل الى درجة الغليان والتشنج والاستخدام المفرط للمشاعر، لو أن أمده لم يطل الى حد استشراء اليأس والتذمر، ولأنه ليس من قبيل النزاعات الواضحة المعالم والأهداف، فقد كان طبيعياً أن ينحدر الى مستوى فقدان السيطرة، فلا المفاوضات رسخت قناعات الأمل، ولا الحوار الإقليمي استوعب تداعيات المشكل، ولا مواقع المتصارعين بقيت عند مربعها الأصلي. بيد أن انتقال أي صراع حول أي قضية من مرحلة الى أخرى يكون مطلوباً ومقبولاً، بخاصة في ضوء التحكم بخيوط اللعبة، فدائماً تكون هناك أهداف سياسية تحتم إدارة الصراع، بما يكفل للفرقاء أو لأحدهم على الأقل قياس درجات التسخين والتصعيد. إلا أنه حين تختلط الأوراق وتندس ممارسات خارج سياق ما يمكن تحمله تضيع معالم القضية الجوهرية. تجنب المغاربة كثيراً أن يصفوا شركاءهم في مفاوضات الحل السياسي لنزاع الصحراء، غير أنهم يجب أن يكونوا معنيين باستتباب الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة برمتها. فهم في واقع الأمر يحاورونهم الى جانب باقي الأطراف المعنية بالصراع الإقليمي، وأكثر ما تكون الخشية من أن أسلوب المفاوضات لم يعد في إمكانه أن يستوعب كل التناقضات. أخطر من التهديد بمعاودة حمل السلاح، أن تكون ثمة حرب من نوع آخر قد بدأت، فليس جديداً على أطراف نزاع الصحراء أن يضغطوا على زناد البنادق. فعلوا ذلك حين لم تكن هناك بوادر حل. أما اليوم فلا أسهل من إشعال حرائق، لن يصبح مجدياً السؤال عمّن تسبب فيها، وإنما البحث في أسرع الطرق والوسائل لإطفائها. لكن أحداث العيون تبقى نوعاً من الجراح التي تحدث شرخاً عميقاً في الأفكار والمفاهيم والرهانات، والأصل في ذلك أن أهل الصحراء لا يميلون الى العنف، ونصب الخيم عندهم تقليد متوارث ينبع من الوئام وليس الخصام الذي يترك الهوة عميقة.