أحمد الملا* كل ما يقدم اجتهادات فردية.. إن نجحت تلقفت الوزارة بريقها.. وإن تعثرت فليس لها أحد فيلم هيفاء المنصور «من؟» أشبه ما يكون بحجر حرَّك راكداً ولم يهدأ بعدها مصطلح «السينما السعودية» له دلالات لا وجود لها في بلادنا.. وأتحفَّظ على استخدامه الأفلام السعودية تحصد خمس جوائز في مهرجان الخليج السينمائي الذي اختتمت دورته السادسة، منذ أيام.. هكذا أحب أن أستل التفاؤل من مشهد يوحي بنقيضه، أو كما وصف محب عظيم بقوله: لا ضوء في آخر النفق لكنني أراه! في البدء لست معنياً بالجدل في مشروعية السينما من عدمها، ولست في وارد النيل من أحد أطراف اللعبة والذود عن طرف آخر، كل ما تعنيه لي ورقتي هذه هي المحاولة في تأمل المشهد، ولو استطعت الوقوف على مشارف جماليات اللغة السينمائية، سأكون محظوظا، لكنني سأعرج على توصيفات يراد تسويقها في مشهدنا الثقافي، وسأحاول تناولها بتأن وانتباه. أعترف مسبقا بصعوبة التحقق من رصد الإنتاج في هذا الحقل الفني، فليس ثمة إحصاءات سنوية تصدر من جهة يشار إليها بأنها راعية لهذا الفن، بما في ذلك وزارة الثقافة والإعلام، فكل ما يقدم هو نتاج اجتهادات فردية بحتة، إن نجت وحققت نجاحا، تلقفت الوزارة بريقها، وإن تعثر طريقها فليس لها أحد.. سأحاول الإشارة وإثارة بعض من الأسئلة، وتلمس ما يشير إليه الوضع الحالي عبر معطياته الثقافية والفنية، والى أين يأخذنا هذا النفق. كنا نقول إن داخل كل إنسان يوجد الشاعر، ولكني أزعم أن الإنسان منذ ولادته وحتى يسقط مركبه في الظلام وتقفز روحه عالياً، وهو في فيلم سينمائي طويل متسلسل، هو المشاهد في الصالة المظلمة وهو الفيلم نفسه، هو السيناريست الذي ينتقي ما يريد من رسم المشاهد وانتقاء الحوارات، هو مؤلف الموسيقى وصاحب اختيار المؤثرات، ومهندس المواقع عبر تسليط الإضاءة على ما يرغب، هو المونتير؛ يقطع ويصل ويركب ويقدم ويؤخر حسب مشيئته في مشاهدة الفيلم، هو كل ذلك، والبطل أيضا.. بل هو الذي يرى ما يريد ويمكنه الإغماض وتشغيل شاشته الداخلية والتلاعب بالنص والصورة وإعادة صياغة الحياة في استعادة لقطات مفبركة من واقع يتحول إلى مجاز يمكن أن يتشكل بنسخ مختلفة متى شاء (مثل البلي باك)، المخيلة ضوء يتحرك في مخزن مظلم لمتحف الحياة. أمهد بهذه الاستعارة، عتبة مجازية لعالم يختلط فيه الوهم بالواقع، يتكرر على الألسنة تحت مسمى «السينما السعودية»، لهذا فإن التمهيد السابق هو جزء لا يتجزء من فهمي المحدود للسينما، أما التسمية الدارجة في أسواق الثقافة حالياً وهي السينما السعودية، فلي عليها تحفظات سأذكر منها في عجالة، لسببين: الأول: لا وجود لما يسمى سينما سعودية، ثانيا: ليس هناك إنتاج سينمائي. فالأول مصطلح يدل على وجود حراك فني تغذيه قنوات معرفية واقتصادية واجتماعية لا تتوقف عن الجريان، لها مؤسساتها الأكاديمية والثقافية ومناخها التنافسي عبر صالات العرض (وأظن كل مفردة ذكرتها لا وجود لها في بلادنا)، أما الثاني (أي الإنتاج السينمائي) فليس من صناعة متواترة يعتاش منها حرفيون يعولون على شغلهم، ولا سوق ولا اقتصاد للسينما، هكذا أحاول توضيح رؤيتي بأن ما يحدث الآن وهنا ما هو إلا إنتاج أفلام فردية، أي أقل حتى من مصطلح «الأفلام المستقلة» المستخدم في أنحاء العالم، والذي أطلقه بعض الأصدقاء المتحمسين دون انتباه على تجربتنا المحلية. طبعا سأتخفف من المعايير الفارقة بين الدراما التليفزيونية، والسينما، وبين الفارق بينهما في الجانب التقني الذي ظل معيارا لعقود طويلة، وهو ما يختلط في غالبية أفلامنا السعودية. حسنا كيف لنا إذاً أن نوافق بين الحالة السينمائية، والسينما؟ ربما أقف على التمهيد السابق أو العتبة وأفتح الباب لنرى الميديا تقتحم وتسيطر وتشكل العقول والأذهان، أي أن الصورة المتحركة هي سيدة العالم، وسنامها السينما، هكذا يمكن القول إننا جزء لا يتجزأ، بل في قلب العالم، في حالة التلقي، مقابل أننا خارج التاريخ في حالة الإنتاج وبالتالي التأثير. خطت الأفلام السعودية أولى خطواتها في عام 1977 ميلادية عندما تم إنتاج أول فيلم سعودي بعنوان «اغتيال مدينة» والذي قام بإخراجه عبد الله المحيسن وتناول فيه قصة مدينة بيروت والدمار الذي لحقها جراء الحرب الأهلية وهي في بداياتها. وتم عرض هذا الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي وحاز على جائزة «نيفرتيتي الذهبية» لأحسن فيلم وثائقي قصير. (عندما نحدد ريادة فيلم «اغتيال مدينة» نخص الإخراج والإنتاج للفيلم – فالإخراج والإنتاج هما ما يمنحا الفيلم هويته حسب المتداول في العالم – وإلا فهناك أفلام سابقة شارك بها سعوديون في أدوار مختلفة، بعضها من سينما هوليوود الأمريكية في الخمسينيات وغيره) بعدها هبت الثمانينيات بوعثائها وأصابت الجسد كله وفيما أصابت الفنون، ثم تلتها التسعينيات بتداعياتها، وما أنتجته هاتان المرحلتان من أفلام لا يتعدى أصابع اليد الواحدة أغلبها للمخرج المثابر عبدالله المحيسن. في بداية الألفية الثالثة، وفي ظل تنامي قوة الميديا وتأثيرها، مع نمو هائل لشريحة الشباب، الأقرب إلى تشرُّب التقنية الحديثة بتمظهراتها العديدة وأهمها هيمنة الصورة، تشكل مناخ شاب مزج الحماسة بالتنافس عبر مسابقة أفلام الإمارات التي انشطرت لاحقا إلى واحدة من أهم مهرجانات السينما في العالم، ومن هناك بدأ شبابنا يتحرك كل منهم بمفرده وبمجهودات ذاتية خالصة في إنتاج ما يعرف الآن بأفلام الموجة الشبابية في السعودية. فيلم المخرجة السعودية هيفاء المنصور «من؟» الذي أخرجته في عام 2003، أشبه ما يكون بالحجر الذي حرك راكداً ولم يهدأ بعدها. ومع انطلاقة مسابقات ومهرجانات سينمائية في دول الخليج وبالذات في الإمارات.. والتي ترسخ فيها مهرجان الخليج السينمائي ومهرجان دبي الدولي للسينما وكذلك مهرجان أبوظبي السينمائي، تضاعف إنتاج الأفلام القصيرة بعدها حتى بلغ عددها في 2007 ما بين ثلاثين إلى خمسين فيلماً. وفي عام 2008 تقدم 75 فيلما سعوديا للمشاركة في مسابقة الأفلام السعودية التي أقامها نادي المنطقة الشرقيةالأدبي وجمعية الثقافة والفنون في الدمام. بوستر فيلم «حرمة» وعلى الرغم من تزايد إنتاج الأفلام السعودية، ودخولها في تنافس سنوي شرس في مهرجانات الخليج مع أفلام من العراق والكويت والإمارات والبحرين وعمان وقطر، والتحدي الذي صاحب البدايات، حيث حقق عدد من الأفلام السعودية جوائز في المهرجانات الخليجية والعربية أيضا مثل فيلم شروق وغروب محمد الظاهري، فيلم عايش للمخرج عبدالله آل عياف وفيلم القندرجي للمخرجة عهد كامل والآن فيلم وجدة للمخرجة هيفاء المنصور وفيلم حرمة للمخرجة عهد كامل.. وعلينا أن لا ننسى أن حصة الأفلام القصيرة هي الغالبة حتى يكاد يكون فيلم وجدة استثناء لعام 2013 مقابل ما لا يقل عن مائة فيلم قصير. على الرغم من الزيادة العددية في الإنتاج، فإن مساحة التطور الفني المتاحة في ظل ظروف الإنتاج الفردي ستكون محدودة الأفق، ولولا التطور السريع للتقنية الحديثة في مجال تنفيذ الأفلام (سواء في الكاميرات السينمائية، وبرامج المونتاج، والتسجيل الصوتي، والمعدات المساعدة) لكان الأفق مسدودا على الجهود الفردية المعمول بها بين المخرجين والمخرجات السعوديات.. لهذا سنجد الجودة الفنية والتقنية في أفلام الإمارات أو العراق متفوقة على غالبية أفلام السعودية الأخرى، ويعود السبب لعدة أمور منها: الإنتاج الضخم نسبة إلى ما كان عليه من إنتاج فردي، وهو يتأتى من تبني الأفلام والصرف عليها وتطويرها من قبل جهات فنية داعمة للفيلم. الاشتغال على التفاصيل والعمل عبر قنوات احترافية في كل مجالات الإنتاج. التفرغ وتحصيل المعرفة السينمائية الحديثة. إدارة الفيلم ما قبل الإنتاج وما بعد الإنتاج. في غياب مثل هذا التوجه نحو الاحترافية وما تحتاجه من رؤية استراتيجية، سيُصدم المخرجون السعوديون بسد عنيد، سيكون من الصعب عليهم تخطيه أو اختراقه إلا بتنازلات ضخمة. تبدأ هذه التنازلات التي يقع فيها المخرج السعودي برهن فكرة فيلمه نحو ما يجلب لها الدعم المادي. إن غياب الشرط الاجتماعي الذي يتشكل من التصور المتخيل لاستجابة صالة العرض والذي عادة ما يتحول إلى سلطة ذهنية تمارس دورها أثناء الاشتغال على الفيلم في كل مراحله الإنتاجية من خلال الفنانين (مخرج وفريق عمل)، حيث يحسبون لعرض الفيلم في مكان ما حسابات لا مفر منها؛ تخيل ردود الأفعال تجاه الفيلم، مستوى التلقي، المحاذير والأعراف المبطنة.. إن غياب الشرط الاجتماعي هو أمر يحمل عدة أوجه، ربما سيمنح الفيلم قليلاً من الحرية لكنه سيشتت بوصلة المخرج، وعلى الأرجح سيرتهن للصور النمطية لدى الآخرين عن الفيلم السعودي. لهذا أتوقع أن يعلو صوت الموضوعية الاجتماعية الدراماتيكية مقابل تواضع اللغة السينمائية الفنية، في غالبية الأفلام المنتجة بدعم مؤسسات الخارج. تستمر عملية إنتاج الأفلام القصيرة على وتيرة تتصاعد، ولا أظن أنها ستتوقف، طالما كان هناك استقطاب وحواضن من مهرجانات ومواقع ميديا إلكترونية، ذاهبة في التحول إلى صالات سينمائية افتراضية، سيبحث بعضهم عن تمويلات خارجية (أي خارج المؤسسة أو خارج الدولة) وسيظل محكوما باستعادة البدايات. أما بعضهم فسينتج أفلاماً قصيرة أو طويلة، عبر أقنية وجهات لها سياقات أيديولوجية، تراهن على مواضيع اجتماعية على الرغم من أنها جدلية وفي صميم المجتمع السعودي إلا أنها مجرد إثارة للدهشة لدى المجتمعات التي تنتمي لها جهة التمويل، وستؤثر هذه الرؤية في صياغة الأفلام التي سينتجها الشباب السعودي بجهدهم الذاتي، دونما حاجة من توجيه خارجي، إذ إن النمط الغالب سيسيطر تلقائياً والدرب المعبد يغري الخطوات الضعيفة. في السنوات القليلة الماضية مر إنتاج الأفلام السعودية بخطوتين كان يمكن أن تقفزا بهذا الفن بضع خطوات إلى الأمام، ويصلب من عوده، أعني دعم قناتي روتانا وال (إم بي سي) للأفلام السعودية، لولا أن القناتين تعاملتا بسطحية استهلاكية مع هذه التجربة، وبمقارنة هادئة بين منتج الجزيرة الوثائقية لأفلام المخرجين السعوديين وما أنتجته روتانا وال إم بي سي؛ سيتضح المقصود. لست في حاجة إلى التذكير بلهفة وإقبال السعوديين على الأفلام سواء عبر النت مثل اليوتيوب (90 مليون مشاهدة في اليوم الواحد عام 2012) أو السينما في الصالات خارج الوطن (تعتمد صالات السينما البحرينية على المشاهد السعودي بنسبة 98%) أو عن طريق التليفزيون أو ب»الداونلود»، والذي يضعنا في مقدمة شعوب العالم من حيث الإقبال عليها، وبحسبة واضحة وبسيطة تشير إلى أن المواضيع التي نستقبلها منفردين، ينفعل بها كل منا ويستقبلها وحيداً بشكل متفاوت فيما لو تلقاها بين حشد، إضافة إلى أن الصورة ليست بريئة في غالب الأحيان، فهي مبنية على أجندة منتجيها، التي غالبا لا تتطابق مع مفاهيم من لا ينتمي لها بل تنقضها، وبالنتيجة تزعزع الوعي بوجودنا في العالم. ما يضاعف ويعمق من تفتت الصلة في الشعور الجمعي، الذي عادة يصيغ وجدان الأمة، هو تجزئة المشاعر، فبدلا من المشاركة المتفاعلة بالتلقي في قوة السياق العام، ينزوي الفرد في تقبل ما يشهد في تلق يساق المنتج فيه على المشاهد المفرد. هكذا أتصور أن الفيلم عليه أن يكتسب هويته من الجمهور في كل عرض عام، أكثر أهمية من الانتماء لهوية المنتج والمخرج، فالصالة ليست ترفاً فكرياً، بل حديقة يتمازج حضورها بين القريب والبعيد. ها هو النفق.. مظلم مثل صالة سينما، الضوء لا يأتي إلا من داخلي، أجلس على المقعد في الصف الأخير، وأرى ما تبتكره مخيلتي … الشاشة هي تلك اللحظة التي يعبر فيها الزمن بمكان أقف على أرضه، وحيثما التفت بعيني تدور الكاميرا.. زوم إن أقرب اللقطة … فأرى ما أريد … زوم آوت أوسع اللقطة متأملاً ما يحدث.. كنت البطل واكتشفت في آخر الفيلم أني في نظر كل العابرين في المشهد، كومبارس.. ربما يكتب أمام اسمي: رجل 2، لتتوالى الأسماء صغيرة وسريعة وتغطس الشاشة في سواد تخفت الموسيقى.. ويعقبها صمت. فنهاية.