يمكن للمتخصصين في علم الاجتماع تقديم تفسيرات مهمة لظاهرة الشهادات الوهمية في مجتمعنا، إذ إن هناك تخصصاً دقيقاً في علم الاجتماع يطلق عليه علم اجتماع العلوم Sociology of Science، وهو بالمناسبة المجال الذي تخصصت فيه. سأحاول في هذه المقالة تقديم مقاربة لظاهرة الشهادات الوهمية مستخدماً مقاربات ومفاهيم علم اجتماع العلوم. في الوقت الراهن، تنقسم الدراسات السوسيولوجية للعلوم (أي, دراسات علم الاجتماع) إلى فرعين بينهما تنافر كبير وقطيعة عميقة، هما علم اجتماع العلوم وعلم اجتماع المعرفة العلمية. تبلور علم اجتماع المعرفة العلمية قبل حوالي أربعة عقود على أيدي ثلة من المشتغلين في دراسات العلم ممن أرادوا الكشف عن مدى تأثر المعرفة العلمية المنتجة (والتي ينظر إليها بوصفها منزهة عن التأثر بغير العوامل العلمية نظراً لإنتاجها وفق مناهج صارمة) مدى تأثرها بالظروف الاجتماعية المحيطة بها من قبيل النوع (ذكر/ أنثى)، مصادر الدعم, طبيعة المنهج العلمي المستخدم، الانحيازات المنهجية والنظرية للعلماء وغيرها من العوامل. بتعبير آخر، لقد أراد رواد هذا التوجه فتح «صندوق الطماطم» المغلق للمعرفة العلمية. سيكون هذا الفرع قليل الصلة بالمقاربة التي أنوي تقديمها لظاهرة الشهادات الوهمية. سأستخدم فرع سوسيولوجيا العلم. تأسس فرع سوسيولوجيا العلم في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي (أي قبل ظهور تيار سوسيولوجيا المعرفة العلمية بعدة عقود) على يد عالم الوظيفية البنائية الكبير روبرت ميرتون. ينظر هذا الفرع للعلم كمؤسسة اجتماعية, مثلها مثل الأسرة والقانون وغيرهما من المؤسسات القائمة في المجتمع. وبناء عليه، فإنه يمكن تعيين الآليات التي تسير هذه المؤسسة. بعد ذلك، يمكن فحص طبيعة عمل هذه الآليات للوصول إلى معرفة إن كانت هذه المؤسسة، أي العلم، تعمل بالكفاءة الوظيفية المطلوبة أم أنها تعاني اختلالات وظيفية تمنعها من تقديم الأداء المتوقع منها. واحدة من أهم آليات عمل أي مؤسسة اجتماعية هي آلية المكافآت والعقوبات. المكافآت تعطى لمن يقوم بسلوك إيجابي، وبالتالي تمكين المؤسسة من أداء وظائفها بالشكل المطلوب، والعقوبات توقع على من ينهجون السلوكيات المنحرفة، وبالتالي يوجدون اختلالات وظيفية تؤثر على عمل المؤسسة وعلى حسن أدائها لوظائفها. هذه القاعدة تنطبق على مؤسسة العلم. لذا، يدرس المتخصصون في سوسيولوجيا العلم طبيعة عمل كل من آليات المكافآت والعقوبات داخل منظومة العلم في مجتمع ما لمعرفة مدى الكفاءة الوظيفية لمؤسسة العلم في المجتمع. إن أردنا تطبيق هذه المقاربات على ظاهرة الشهادات الوهمية فإننا سنصل إلى نتيجة أن انتشار هذه الظاهرة وبهذه الكثافة مظهر على خلل كبير في مؤسسة العلم لدينا، في كفاءتها وحسن أدائها لوظائفها. هذه الظاهرة عرض على خلل كبير يعاني منه العلم في مجتمعنا. فهي، أي الظاهرة, ليست إلا سلوك انحرافي، وفقاً للمدونات الأخلاقية والقانونية للعلم. والانحراف يحدث دائماً، لكن هذا الرواج الكبير للظاهرة يدل على قصور في عمل آلية العقوبات في مؤسسة العلم المحلية، إذ لو كانت هذه الآلية تعمل بكفاءة لما جرأ أفراد ناجحون أصلاً، كنجوم الثقافة والدعوة والفكر والموظفين القياديين حتى في القطاعات التربوية على الإتيان بسلوك منحرف كهذا. ببساطة, تعطلت آلية الجزاء والعقاب فانتشر الانحراف. يجدر بي أن أوضح أمراً هنا. حين أقول عن العلم أنه مؤسسة اجتماعية، فهذا لا يعني أنه مؤسسة تنظيمية رسمية موحدة. العلم ليس جهة أو وزارة. إنه أكبر من ذلك بكثير، فهو موزع بين جهات كثيرة بعضها رسمي وبعضها ليس كذلك، كمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ووزارتي التعليم العالي والتربية والجامعات والجمعيات العلمية والدوريات العلمية المحكمة وإدارة حقوق المؤلف بوزارة الثقافة والأهم من ذلك كله والأوسع هو المجتمع العام، خاصة نظرة سلم القيم الاجتماعية لمسألة الغش والسلوك المنحرف في العلم وهل هما محل إدانة أخلاقية في المجتمع الأكبر أم لا؟ لو أن هذه العناصر مجمعة على إدانة السلوك المنحرف علمياً وإنزال العقاب بصاحبه لما دب الخلل الوظيفي في مؤسسة العلم المحلية، وبالتالي لما شهدنا هذا الرواج الكبير لظاهرة الشهادات الوهمية. بل إن ظاهرة الشهادات الوهمية بينت التنافر الكبير بين منظومتي القيم في كل من مؤسسة العلم من ناحية والمجتمع الأكبر من ناحية أخرى. فبعض الدعاة والداعيات، الذين يحملون هم الدفاع عن فضائل المجتمع وصون قيمه الأخلاقية الرفيعة لدرجة الجرأة على محاسبة الناس على لباسهم ومظاهرهم، تبين أنهم من حملة الشهادات الوهمية. والأخطر من ذلك هو التبرير الذي ساقوه لهذا السلوك. فبعضهم برر ذلك بخدمة الدعوة، فالدال السابقة للاسم ستعطي، وفق هذا التبرير، ثقلاً وفاعلية أكبر لمحتوى الوعظ الديني، وبالتالي نشر للفضائل والتدين! هذه الحالات تضع أيدينا على جوهر الأزمة ولبها البالغ التعقيد، إنه اغتراب قيم العلم عن قيم المجتمع. فالانحراف العلمي يسوغ بالفضيلة الدينية! نخادع أنفسنا إن قلنا إن أصحاب هذه التفسيرات مرضى أو منحرفون أو حالات شاذة. إنهم يعبرون عن حالة عامة. هل تذكرون حكم إدارة حقوق المؤلف في القضية التي رفعتها سلوى العضيدان على عايض القرني؟ لقد أدانته بسرقة الكتاب! هل «هز» هذا الحكم شعرة من مجد الداعية العتيد؟ أبداً, بل زاد من همة دفاع المناصرين له وعزيمتهم! كثيرا ما أشجع طلبتي في مادة علم اجتماع المعرفة على فحص وتحليل ليس تبريرات أصحاب السلوك العلمي المنحرف، من قبيل حملة الشهادات الوهمية أو الساطين على مؤلفات الآخرين أو «سالقي» البيانات العلمية، بل خطاب المدافعين عنهم لتبيين أن جوهر المشكلة ليس خللا في ذات الفاعل بل غربة القيم العلمية وعدم نجاحها في أن تكون جزءاً من سلم القيم لدينا.