لم يعد الأمن الاجتماعي في حياتنا المعاصرة، مجرد هدف اجتماعي - وطني، وإنما أصبح هدفا حضاريا شاملا، ينطوي على جوانب سياسية وثقافية ووطنية، لا تقل أهمية عن جوانبه الاجتماعية. فالأمن الاجتماعي يعد عنصرا لا غنى عنه من عناصر النهضة الحضارية، ومظهرا من مظاهر القدرة على التحرر من المؤثرات الخارجية الوافدة، فهو أعلى مظاهر استرداد الهوية الوطنية والثقافية، التي سعت قوى البغي والشر عبر التاريخ إلى إنهاء خطوط الدفاع العقدية والمجتمعية كخطوة أولى لعملية الاستيعاب والسيطرة . ويخطئ من يعتقد أن الأمن الاجتماعي هو عبارة عن غلق الأبواب والانطواء على النفس، وتكثير لائحة الممنوعات والابتعاد عن وسائل الاتصال والإعلام الحديثة. فالأمن الاجتماعي لا يشكل حالة سلبية تتجسد في صد الناس عن المخاطر المحتملة. إن الأمن الاجتماعي يعني بناء قوة الوجود الاجتماعي الذاتية، التي تقوى لا على المقاومة والصمود فحسب، وإنما على الاندفاع والملاحقة والفعل المؤثر . ولكي تتحقق هذه المقولة نؤكد الفكرة التالية: يجتهد المختصون بالشأن الاجتماعي سواء كانوا علماء اجتماع أو وعاظا ومصلحين اجتماعين في رصد الظواهر الاجتماعية، وتحديد الموقف المطلوب منها. فإذا كانت ظاهرة إيجابية امتدحها المصلح، وشجع على بقائها وديمومتها في المجتمع . وإذا كانت سلبية وسيئة ذمها، وعرض القيمة المقابلة لها بكلياتها وخطوطها الكبرى فقط. ولأن التراكم المعرفي والتواصل البحثي، تقليد لا نعرفه في أبحاثنا الاجتماعية، وعملنا المجتمعي، لذلك فإننا لا نهتم كثيرا في فهم وإدراك الظواهر الاجتماعية على البحوث التحليلية والعلمية القائمة على الحقائق والبراهين والأرقام. وإنما نكتفي بلغة الوعظ والإرشاد والنصيحة في معالجة الظواهر الاجتماعية. وكأن الأخلاق هي العامل الأوحد لعلاج كل مشكلات المجتمع وظواهره المتعددة غافلين في ذلك عن طبيعة نشوء الظواهر في المجتمع الإنساني. حيث لا توجد ظاهرة اجتماعية وليدة عامل واحد فقط. فكل ظاهرة اجتماعية، هي وليدة علاقات وظواهر ومشاكل متشابكة، أفرزت هذه الظروف المتشابكة تلك الظاهرة الاجتماعية. فمثلا ظاهرة الرشوة وقبولها اجتماعيا، ليست ظاهرة وليدة الانحراف الخلقي فحسب، بل هي ظاهرة يشترك الكثير من الأنساق والسياسات والسياقات الاجتماعية والاقتصادية في إيجادها. فلا يمكن أن نعالج ظاهرة اجتماعية جاءت إفرازا لمشكل اجتماعي - حضاري عميق، بالنصيحة الأخلاقية والإرشاد الديني المجرد "دون أن ننكر دور هذه الآلية في علاج هذه المشكلات" من هنا ، من الأهمية بمكان أن تسعى المؤسسات الأهلية والخيرية والاجتماعية إلى استحداث مراكز دراسات وبحث اجتماعي، حتى يتسنى لها دراسة الظواهر الاجتماعية بشكل علمي وعميق . والذي نريد قوله في هذا المجال : اننا ينبغي أن ننتقل في رصد وعلاج الظواهر الاجتماعية السيئة من موقع الوعظ، إلى موقع الباحث العلمي الذي يتجه إلى جذور الأمور وجوهر القضايا، دون أن يغفل تداعياتها وآثارها الجانبية. وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن نتعامل مع الكيان المجتمعي، كما نتعامل مع العلوم الطبيعية والرياضية القائمة، على الحتمية والاطراد والعمومية وغيرها من سمات العلوم الطبيعية. وإنما نحن نرى المنهجية والبحث العلمي الرصين مسألة ضرورية في العلوم الاجتماعية. وتتأكد ضرورة هذه المسألة، حينما نريد أن نرصد ظاهرة اجتماعية ما، ونحدد موقفا منها،وسبل علاجها إذا كانت ظاهرة سلبية، وطرق تعميمها وتكثيفها إذا كانت ظاهرة إيجابية وحسنة. فالعلوم الاجتماعية لا ترقى في علميتها إلى مستوى العلوم الطبيعية. ولكنها ينبغي أن لا تتخلى عن الدقة والضبط العلمي في دراسة الظواهر الإنسانية. وفي تقديرنا أن الاعتماد على النسق الوعظي في علاج الظواهر الاجتماعية ليس وليد النقص العلمي أو غياب الاهتمام العلمي لدى من يقوم بهذا النسق في حركته الاجتماعية، بل يرجع إلى الاختيار المنهجي في اعتماد أسلوب الوعظ في العملية الاجتماعية. من هنا فإننا نرى أن الاعتماد على البحوث العلمية في رصد وعلاج مشكلاتنا الاجتماعية باعتبارها مشكلة منهجية، وليست معرفية بالدرجة الأولى. وأن من الأخطاء الفادحة التي يقع فيها الكثير من المهتمين بالشأن الاجتماعي العام. أنهم يعزلون الظاهرة التي يراد دراستها عن السياق الاجتماعي والظروف التاريخية التي برزت فيها تلك الظاهرة ونشطت فيها. فلا يمكن أن ننظر إلى مشكلة جنوح الأحداث مثلا، بوصفها قضية أخلاقية محضة، دون النظر إليها في إطار علاقة الأحداث بالجماعات الصغيرة كالأسرة والجوار والأصدقاء وما أشبه . إننا ينبغي أن نحلل هذه الظواهر تحليلا سوسيولوجيا،ينظر إلى الظاهرة ككائن حي، تنمو وتزدهر لمجموعة من العوامل الحاضنة والمحيطة. وكما يبدو أن النسق الوعظي، لا ينظر إلى الظواهر الاجتماعية،نظرة سوسيولوجية، بل باعتبارها مشكلات أخلاقية، تعالج بتذكير الإنسان بالفضائل الأخلاقية المقابلة لتلك الرذيلة دون أن يتعب نفسه في البحث والتنقيب عن العوامل والأحداث الحقيقية والخفية لبروز تلك الظاهرة المدروسة. ويضرب الدكتور محمد عزت حجازي مثالا على هذه المسألة بالتنشئة الاجتماعية فيقول: ان عشرات وربما مئات الدراسات والبحوث حول موضوع مثل التنشئة الاجتماعية في مرحلتي الطفولة والشباب وفرت كما هائلا من المعلومات عن نقاط تفصيلية كثيرة، ولكنها لم تفلح في الإجابة عن أسئلة مهمة. مثل هل تسير عمليات التنشئة الاجتماعية بحيث تخلق مواطنا يفهم ذاته ويقبلها، ويفهم الآخرين ويمكنه أن يقيم علاقات مشبعة معهم . ويفهم ويستطيع أن يكون إيجابيا إزاءه؟ وهل تسمح التنشئة الاجتماعية للإنسان أن يحقق إمكاناته وملكاته واستعداداته لأكبر مدى ممكن. وبحيث لا تأتي الأجيال المختلفة تشبه بعضها بعضا، وإذا المجتمع يكرر نفسه وإذا لم تكن تفعل ذلك، فماذا عن أوضاع وظروف في البنية الاجتماعية مثلا يحول دون بلوغه؟ وأية قيم أخلاقية وجمالية واجتماعية وغيرها ترسخها عمليات التنشئة الرسمية وغير الرسمية؟ وفي أي اتجاه تسير هذه . إننا لا ننكر دور الوعظ في حفز الجانبين الأخلاقي والوجداني لدى الإنسان، إلا أن هذا الجانب بوحده، لا يستطيع أن يعالج الظواهر الاجتماعية ذات المنابت المتعددة. وبكلمة : ان الأخطاء الإنسانية التي لم تتحول إلى ظاهرة، يكون للوعظ والنصيحة الدور الفعال في إنهائها. أما إذا تحولت هذه الأخطاء إلى ظواهر، فإن العاطفة بوحدها لا تنهي تلك الظاهرة. فالإنسان لا يستبطن فقط الجوانب الأخلاقية بل معها نوازع وحوافز شتى تؤثر على مسيرة الإنسان، وقناعاته الفكرية ومواقفه السلوكية. إننا أمام المشكلات والظواهر الاجتماعية، من الضروري أن ننأى عن التفاسير الظاهرية التي تعيد هذه الظواهر إلى أسبابها الشكلية وعواملها الفوقية، دون سبر أغوار الظاهرة والتعرف على جوهر الأسباب والعوامل الموجدة لها. كما نبتعد عن تحديد المسببات الكلية لهذه الظواهر . فالواقع المجرد أو التطور السريع بشكل عام أسباب للكثير من الظواهر، ولكنها أسباب كلية، ومن الخطأ الاعتماد والاستناد على هذه العوامل الكلية في اكتشاف الظواهر الاجتماعية السيئة وسبل علاجها. إننا بحاجة إلى أن نجعل الظواهر الإنسانية في سياقها الاجتماعي الطبيعي ونبحث في هذا السياق والظروف عن أسبابها وطرق علاجها. والسياق الاجتماعي الذي نقصده ليس كيانا راكدا وسكونيا، بل هو سياق تعتمل فيه عوامل الصراع وأسباب المدافعة. فالأمر الضروري الذي ينبغي أن نسعى إليه، هو الفهم الموضوعي للظاهرة، القائم على البحث العلمي والتحليل الاجتماعي المتماسك، مستعينين في إطار ذلك بالأخلاق ودورها الاجتماعي الإصلاحي. وإننا مطالبون أمام الظواهر الاجتماعية المختلفة أن نرصدها ونقرأها اعتمادا على منهجية علمية وأساليب ملائمة، لتفكيك هذه الظواهر وسبر أغوارها، واكتشاف آلياتها وطرق عملها، وأسباب نموها وعوامل ضمورها. وبالتالي فإن المنهج الذي ينبغي اتباعه لتحقيق الأمن الاجتماعي منهج مركب، يستوعب التفاعل الموضوعي بين مختلف مكونات الظاهرة المجتمعية، كما أن الأمن الاجتماعي، هو وليد مستوى التوازن والرضا، التي يشعر بها أفراد المجتمع، وفي تكامل العلاقات الداخلية وسلامتها، وليس في المزيد من الإجراءات الفوقية التي تكبل حركة الإنسان وحريته. وينبغي أن ندرك جميعا، أن اتكاء نظرية الأمن الاجتماعي على مجموعة من الإجراءات الشكلية، لا يؤدي إلى تحقيق الأمن، بل يؤدي إلى ازدواجية في شخصية الإنسان، تدفعه باتجاه البحث عن أساليب ملتوية وسرية لاختراق جدار الأمن الاجتماعي. أما إذا اعتمدنا في نظرية الأمن الاجتماعي، على منهجية الرضا الداخلي، والتوازن النفسي، فإننا سنشرك قاعدة اجتماعية واسعة، ترى من مهمتها تحقيق الأمن الاجتماعي والمحافظة عليه. وبالتالي فإن الأمن الاجتماعي، ليس من اختصاص فئة أو شريحة محددة فحسب، وإنما هو من اختصاص الجميع، ومهمة الجميع.