المتخصص في دراسة جغرافية المدن، يدرك أن نمو المدن لم يأت عفوياً بل جاء نتيجة مسببات أدت إلى تناميها. ومن تلك العوامل ما هو طبيعي كالموقع الجغرافي، وما يتعلق به من مناخ وسطح مناسبين، ووجود ثروات طبيعية متنوعة أوعوامل بشرية كالطرق التي أنشأها الإنسان، أوالوظيفة التي تتميز بها المدن سواء كانت (تجارية، صناعية، سياحية، معدنية، دينية، سياسية، أثرية، ثقافية) يتبقى دور الإنسان في التخطيط السليم، والتنفيذ الجيد، لتستمر المدينة في النمو والازدهار دون حدوث عوائق وصعوبات تفت من عضد التغيير نحو الأحسن، والتخطيط المدروس نحو الأفضل بالانتباه لجميع الجوانب كيلا يقتصر التخطيط على الفترة الراهنة، بل يمتد إلى المستقبل البعيد مراعياً التنامي السكاني والامتداد العمراني، ومتى حدث خلل في ذلك – أي التخطيط – فسوف يتحمل أهالي المدينة تبعات الأخطاء، وبطبيعة الحال يصعب علاجها إلا بإعادة صياغة المدينة من جديد، وهذا مستحيل حدوثه، ولنا في مدن العالم شواهد واضحة لا تخطئها العين، حيث يتفق معي كثيرون أنه ليس من معايير جمال وبهاء المدن كثرة السكان أو التنامي العمراني سواء كان رأسياً أو أفقياً، بل بقدرة الإنسان على تهيئة مدينة عصرية تأخذ في الاعتبار جميع الجوانب التي تُحقق الراحة والاستمتاع والاطمئنان. وحين نُدقق النظر في أشكال المدن، ونتلمس النواحي الجمالية بها، نلحظ أن بعضها هاشة باشة، وأخريات عابسات متوترات منقبضات، وبعضها متفائلات مستبشرات، وبعضها يلفعها السحاب في تناغم عجيب وكأن قدر سكان تلك المدن استنشاق الهواء المخضب بالرطوبة مما تخلق فضاء شعرياً ناطقاً، يشعر الساكن بأن الأحجار والأشجار والمباني تشاركه معزوفة الجمال، فتغدو حالمة تتناغم بيوتها كالعرائس، راقصة على شدو الطيور، وأخرى تمتد كأذرع الأخطبوط لا يوقف نموها حجر أو مدر، تستاف من الرمال صباح مساء، تتلظى تحت حزم الشمس الحارقة، فيما توجد مدن تحتضنها الأنهار في علاقة عشق حميمية، تأخذ صفة الديمومة فتمتد مبانيها مع تعرجات الأنهار، في تلازم فريد وجميل بين العمران والماء، وأخرى قُدت من الصخور تدل على صلابة السكان وشدة عزمهم، والزائر لها يشتم رائحة الماضي من خلال النقوش والكتابات والرسوم القديمة، وتلك لعمري تحكي أساطير وحكايات طوتها القرون، ولم تبق إلا في ذاكرة المكان، هذا هو حال المدن بعضها ترقص، وأخرى تبكي، وثالثة تشتكي، ورابعة تمارس طقوساً عجيبة ، وخامسة تعاني من العشوائية وسادسة وسابعة إلخ. الذي دفعني لكتابة هذه المقالة حين تأملت مدينتي الباحة التي تقع في أعالي جبال السراة كنجمة وسنى، وجدت أن نصفها ينبض بالحياة عمراناً وتجارة وحركة دؤوبة، والنصف الآخر شبه مشلول من الحركة عدا المزارع والطرق القليلة التي تخترق الحاجز الإسمنتي الذي كان سبباً في تعطيل نصف المدينة، بلا شك أن الطرق هي أحد أهم عوامل ازدهار ونمو المدن، ومن الشواهد الماثلة على مستوى العالم سكة الحديد التي تمتد من أقاصي روسيا شرقاً إلى أقاصيها غربها حيث كان الطريق سبباً رئيساً في وجود عدد من المدن لم تكن موجودة قبل تنفيذه، وكذلك الطرق التجارية أوجدت بعض الموانئ على سواحل البحار والمحيطات. لذا أستطيع التأكيد بأن هذا الجسرالذي يخترق مدينة الباحة كان سبباً في تعطيل نصف المدينة، لارتفاعه عن الموجودات التي حوله وانغلاقه أيضاً من جوانبه، والاحتياج لبناء ثلاثة أدوار ليلامس مستوى الطريق، ولمّا كان بعض أهالي المدينة اشتكوا في أوقات سابقة لما آلت إليه أراضيهم وممتلكاتهم من قلة الاستفادة منها، بمثل الناحية الأخرى فقد اقترحوا اجتثاث هذا الجسر، وإعادة بنائه من جديد ليكون قريباً من نبضهم، وأعتقد أن الأمانة هي المعنية بالدرجة الأولى في هذا الشأن، فالمأمول وضع حل عاجل ومناسب لهذه المشكلة خصوصاً وأن الأمانة قد بدأت مشكورة في تحسين مجرى وادي قوب الذي يخترق مدينة الباحة، وبدأت في التخطيط لتحويل الباحة إلى مدينة مكتملة العناصر بتنفيذ المخطط الجديد لوسطها. لذا من الضرورة إدراج هذا الاقتراح في خططها القريبة، مع الأمل ألا يتكرر الخطأ ذاته عند تنفيذ الطريق الدائري الذي يجري فيه العمل حالياً، وتُشرف عليه إدارة الطرق.