لم أكن ممن يميلون للندوات الشعرية، ولم تغرني كل محاولات صديقاتي لحضورها، لكن هذه المرة أتى الأمر مختلفاً، فالإعلان عن الندوة يملأ كل مكان، ولم أستطع تجاهل العنوان «هموم شاعر»، ولم أعرف كيف ساقتني قدماي إلى ندوته التي يقيمها في إحدى الجامعات، سمعت عنه كثيراً، رسمت له صورة مغزولة مما قرأت عنه، ومن بعض أشعاره المتناثرة على صفحات المجلات، كنت دائماً ما أقول لصديقاتي ممازحة إن كل كلمات العشق في القصائد «كذب»، وأن الشعراء هم أكثر من يكذبون على وجه الأرض!!، وبدأت الندوة، رأيت إنساناً مختلفاً يعزف بأوتار الشعر أنشودة الحب، لم أكن أنتسب إلى الشعر من قريب ولا من بعيد، ولم يكن في الحُسبان أنني سأستطيع حتى مجرد الاستمرار في المتابعة، كنت من دعاة تخليص الروح من أسر الألفاظ المنمقة، واستبدال كل كلمات العشق الهلامية بمفردات الصدق التي تخترق كل الأسوار، وتسكن أعماقنا، وتسري في دمائنا فتحررنا من الزيف والخداع، «بسيطاً» كان كهمس المساء، كإشراقة النهار، كغناء الجداول، كزقزقة العصافير، صوته العميق يتردد في جوانب القاعة، فيبيد السآمة والملل، كل قصيدة، بل كل كلمة، كانت سمفونية من العذوبة والصدق والشفافية، رأيت «إنساناً مختلفاً» عن الصورة الرمادية التي طبعت له في خيالي. كنت أظن أن كل الشعراء يسكنهم الغرور، ويجعلهم التفاف المعجبات حولهم أكثر «غروراً»، لكنه كان نقياً في تواضعه، تشعُّ في كلماته رنة الإشفاق على أولئك الذين تنسحق كرامتهم كل لحظة، وتعبر قصائده عن أحلام البسطاء. لم يجعلنا متخمين بمفردات لا معنى لها، ولم يحشُ رؤوسنا بفلسفة لا محل لها من الإعراب، في ساعة واحدة استطاع أن يرسم للحاضرين صورة صادقة عن الحب، ويحلِّق بهم إلى سماء النقاء، ويشحذ في نفوسهم همة الأمل، ويشعل في قلوبهم جذوة الإحساس بالحياة! وفي نهاية الندوة، ضجت القاعة بتصفيق حاد اهتز له الكَيان، لم تكن يداي وحدهما اللتين تصفقان له، بل، ولأول مرة، انتفض قلبي كعصفور بلله المطر، التف حوله المعجبون والمعجبات، وبقيت في مكاني لا أبرحه، أرنو إليه بشغف هائل، كيف لي أن أفوز بنظرة منه، كيف يمكن أن أعبر له عن إعجابي العميق جداً، وهل يمكن أن ينتبه نجم في السماء إلى ذرة رمل في مكان ما على الأرض، كانت ابتسامته ساحرة وهو يوقع على نسخ من ديوانه، شعرت أنه حفر اسمه على قلبي لا على الورق، داهمتني فكرة مجنونة، دسست ورقة في يد النادل طالبة منه أن يسلمها له، راقبته وهو يقرؤها، «أريد الوصفة السحرية أستاذي!»، ابتسم بسحر مجنون، رأيت عينيه تجوسان في الحاضرين، بحثاً عن صاحب، أو صاحبة الرسالة، توقفت نظراته عندي قليلاً، هل يا ترى كان» قلبه دليله»، وعرف أني أنا المجنونة صاحبة الرسالة؟.