«الهدر»، في أي شيء، يعني: إضاعة مورد مادي أو معنوي ذي قيمة، هباء.. ودون أي مردود إيجابي. فالشيء عندما يفقد، أو يدفع، مقابل شيء مشروع ذي ثمن، يكون إنفاقه رشيدا، وذا مردود على من أنفقه، سواء كان مردودا ماديا، أو معنويا، عاجلا أو آجلا. أما إن أنفق الشيء في أمر سلبي، أو غير مشروع، أو غير ذي مردود إيجابي على من أنفقه، فإن هذا الفعل يعتبر هدرا.. واستنزافا لمورد ثمين.. ليضيع هدرا منثورا. كما يشمل «الهدر» التبذير، وعدم مراعاة الأولويات المنطقية الملحة، بالإنفاق على «الثانوي»، والتقتير على «الأساسى» من الأمور الحالة. وعندما نتأمل في سير الحياة العربية، منذ انتهاء الخلافة الراشدة وحتى الآن، نجد أن هذه الحياة يمكن – وبكل جدارة – أن توصف بأنها «حضارة الهدر».. هدر لكل شيء مادي ومعنوي – تقريبا.. بل إن دماء عربية كثيرة أهدرت هباء، وكان لهدرها مردود سلبي، ولم يكن لها أي نتيجة إيجابية. نعم، لقد قتل عشرات الآلاف من العرب في حروب عبثية، وصراعات حمقاء طاحنة، لم يكن لها أي مبرر منطقي أو استراتيجي. ولو حاولنا إحصاء عدد العرب الذين قضوا هدرا، ودفعوا حياتهم مقابل لا شيء – تقريبا – لوصل العدد إلى خانة الملايين، خلال أربعة عشر قرنا. أما عدد الجرحى والمصابين فربما يتعدى عشرات الملايين..؟! **** ولو أخذنا الفترة التي تبدأ من النصف الثاني للقرن العشرين الميلادي (1951م) وحتى الآن، وحاولنا «إحصاء» عدد من قتلوا وجرحوا وأعيقوا هدرا، فالغالب أنه سيكون عددا صاعقا، نسبة لمجموع السكان العرب من المحيط إلى الخليج (هم الآن حوالي 350 مليوناً). ومعظم أولئك قضوا – وما زالوا – في حروب أهلية، وصراعات إقليمية غريبة، ومعارك غير مدروسة، وحوادث كان يمكن تلافيها، وكأنهم دفعوا بأنفسهم – أو دفع بهم بفعل فاعل معادٍ – للغرق في مستنقعات آسنة وقاتلة، ليفقدوا حياتهم هدرا.. ودون أن يكون لتلك «التضحيات» أي معنى، أو أي مردود إيجابي يعود عليهم، وعلى أمتهم، بنفع ما. خذ – مثلا – الحرب في أفغانستان، الصراعات المختلفة على السلطة، الحرب الأهلية في لبنان، حرب العراق وإيران، غزو العراق للكويت، حوادث وسائل النقل، والعمليات «الإرهابية» التي لم تطل إلا أبرياء. **** ويعتقد أن إقدام معظم هذه الأمة على هدر دماء كثير من أبنائها جعلها تستسهل هدر مواردها الطبيعية، ومواهبها البشرية. وتعتبر ذلك أمرا عاديا – كما يبدو – في كثير من الحالات. هناك هدر للوقت.. يتم بوسائل عدة، منها: «البيروقراطية» المقيتة، وميل كثير من الناس لتعقيد حياتهم وحياة الآخرين، واستمراء ذلك. كذلك «الفساد»، المستشري في هذه الأمة، يسهم في هدر قدر كبير من الثروات، والموارد النادرة، ويتسبب في حرمان نسبة كبيرة من الشعوب العربية من أبسط مطالب الحياة، بما في ذلك الغذاء والدواء والكساء. ففي الوقت الذي يستمتع فيه الفاسد العربي ببذخ غير مسبوق في التاريخ الإنسانى الحديث، نجد أن نسبة كبيرة من بني جلدته وأهل وطنه يصارعون من أجل لقمة عيش تكفل لهم، ولأسرهم، ولو حد الكفاف. **** إن من أبرز صور الفساد، في عالمنا العربي المسكين، هي: تكلفة بعض المشاريع.. حيث تحسب على بلد ما أحيانا بعشرات المرات أكثر من قيمتها الحقيقية. فمشروع يكلف مليون دينار، قد يحسب بعشرة ملايين.. وهذا يؤدي إلى هدر تسعة ملايين من المال العام هباء، لتذهب إلى فاسدين، لا يكترثون بالوطن ومصلحته، بل قد يستخدمون ثرواتهم للإضرار بالوطن أكثر. كما أن هدر «القيم المبجلة»، والتهاون في التمسك بها، أسوأ وأنكى من هدر الموارد الأخرى. فأغلب الحريات تهدر، والعدالة كثيرا ما يضرب بها عروض الحائط. أما «المساواة» فغالبا ما تكون غير واردة من حيث المبدأ. إن هدر الدماء والصحة والقيم النبيلة، وهدر الوقت والجهد، وهدر الموارد البشرية والطبيعية هو أمر تفنن العرب في إتقانه.. وتسبب في ما هم فيه الآن من ضعف وتخلف وانحطاط. ولا توجد محاولات جادة – كما يبدو – لوقف هذا العبث المدمر.. لذلك، تصدق على حضارة العرب صفة «حضارة الهدر».. ربما أكثر من أي صفة أخرى.