من أبرز الحضارات الكونية المعاصرة، الحضارة الإسلامية بلا قيادة موحدة، والحضارة الغربية بقيادة أمريكا، والذي يدفع إلى رصد مسالك المثاقفة بينهما ما نلمسه من حساسية اللحظة الحضارية الراهنة، وارتفاع درجة التوتر بينهما الذي لم يكن مفاجئاً إلا في زيادة وتيرته، وعلانيته بكل صراحة ووضوح، وبثه روح العداوة العنيفة والكره المتبادل، والشروع في استخدام القوة لإثبات الغلبة من جانب واحد هو الجانب الغربي الذي يمتلك مقومات القوة العسكرية، والاقتصادية، والإعلامية، والسياسية. ولم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام الفين وواحد من الميلاد سوى مسمار جديد في عجلة الدفع الغربي إلى المشرق الإسلامي. فقد وضعت مراكز البحوث والدراسات المستقبلية خططها الاستراتيجية لإنهاك وإضعاف الحضارة الإسلامية من الداخل، واستخدام غثاء المسلمين وبعض صفوته المزيفة في تخريب بيوتهم بأيديهم. فمن المتعارف عليه أن الحضارتين الإسلامية والغربية كانتا وما تزالان إلى الآن تقفان على طرفي نقيض في انتماءاتها التصورية. وأن التوتر لم ينقطع بينهما في فترة من الفترات التاريخية التي شهدت مولد الحضارة الإسلامية وما أحدثته من استيعاب لحضارات الكون التي أخذت وأعطت مع الحضارة الإسلامية. لكن التثاقف بين هاتين الحضارتين أقرب منه بين ثقافة العرب وغير الثقافة الغربية. لأن حضارتي الإسلام والغرب حضارتا كتب سماوية، وحضارة الإسلام بالمفهوم العام للإسلام أسست حضارة طارئة جديدة إلا في توقيت نزولها. فجذورها التاريخية والدينية تمتد إلى الحنيفية القديمة دين إبراهيم عليه السلام كما أشارت إلى ذلك الآية الأخيرة من سورة الحج {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين}. لذلك نزل القرآن للناس كافة، وهو كتاب ذكر، ورحمة، وانذار، وأنه الدين الخاتم. وتوجيه الناس في صلواتهم إلى القبلة المرضية «البيت الحرام» تأكيد على عالمية الدين الإسلامي وأوليته، وآخره. لارتباط العالمية بأولية الإسلام، وأنه دين الرسل، وبأولية البيت الحرام. إذ هو أول بيت وضع للتعبد على وجه الأرض. ثم إن رسالة الإسلام الخاتمة. فهذا التمدد الزماني الأزلي منذ قيام الساعة من مشاهد القيامة زيادة تأكيد على أصول عالمية الإسلام، وبأنه دين الحقيقة الإلهية. {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه}. وبأنه دين العالمين، لأن الأنبياء والرسل كانوا يبعثون إلى أقوامهم، وأممهم. وأن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العالمين بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. لذلك ليس من الغرابة أن تجد أكثر من في الأرض عدداً ليسوا مؤمنين. فحضارة كهذه الحضارة المنتمية في أصولها التعبدية، والمعاملاتية، والسلوكية قمينة بالتأثير على غير حضارة أيديولوجية وضعية قابلة للتداول، والتحولات المعرفية من جيل إلى جيل، ومن حقبة إلى غيرها وفق تراكمات المعرفة الإنسانية. وليس وفق تجانس المتصوّر والواقع. لذلك تجد أن الحضارة الغربية القائمة في زماننا هذا المتفوقة في حراكها التثقافي مع ثقافة العرب تنتمي إدعاءً وليس حقيقة من حيث التصور إلى المسيحية. والمسيحية الآن ليست كما نزلت على أهلها، لأنها لو كانت كذلك لضبطت النوازع المنفلتة التي تسعى إلى إلحاق الضرر بمن لا يستحقه إذا ما أرادت تحقيق مآرب بما ينسجم مع نظرتها المادية البحتة. فقد كان المشترك الديني بين الإسلام والمسيحية إقرار التوحيد ونبذ الشرك. غير أن هذا المشترك قد انفرط الاعتقاد به عند المسيحيين في اعتقادهم بالأقانيم الثلاثة (الأب والابن، والروح القدس). وهو اعتقاد لا يقره نقل ولا عقل. وقد اختلفوا حول حقيقة التثليث هذه وفي مفهومهم له بين مصدّق، ومنكر لذلك، وهو عند المعتقدين به يأتي في صورة عادة، وليس يقيناً. وليس أدل على ذلك من تعدد الأناجيل التحقيبية منذ العهد القديم حتى موقف العقل الغربي من الكنيسة في عصر النهضة الأوروبية التي سبقت أمريكا في تغليب العلم على الدين، وتسيّدت بتفوقها التقني على العالم، وامتد هذا التسيد من القارة الأمريكية في الغرب إلى مناطق النفوذ في قارتي آسيا وأفريقيا. والتفوق التقني الغربي ليس مرده الصراع بين الكنيسة والعلم وتغليب هذا على تلك. لسبب واضح إذ لا تضاد بين العلم والدين. فليس من المنطق أن قيام أحدهما لا يكون إلا في غياب الآخر، فالبحث في فلسفة العلم لا يعد بحثاً بعيداً عن دائرة الأخلاق إذ يفترض فيه أن يكون متآلفاً ومتوافقاً مع القيم والغايات الفضائلية. ولعلك تذهب إلى أبعد من ذلك عندما تجعل الغاية الأخلاقية تبرر الوسيلة العلمية. فالمتصور الأخلاقي يطبع المتغيّر المعلوماتي، وليس العكس. وكان يفترض في مسالك المثاقفة بين حضارتي الإسلام والغرب أن يكون من منطلقات القيم المشتركة بينهما في إقرار التوحيد، ونبذ الشرك، والمحافظة على الضرورات الخمس ومن منطلق تبادل المنافع الدنيوية. وقد تنوعت واتسعت أسباب التدافع وصوره بين الحضارتين في هذه اللحظة التاريخية تنوعاً واتساعاً لم يشهد مثله تاريخ الحضارات. ومن أبرز أسباب التدافع توسع الحضارة الغربية عالمياً، وانكماش الحضارة العربية الإسلامية. وهذا التدافع بين الناس ضرورة كونية وظاهرة تداولية، وقيمة حضارية. فقد كان التدافع التداولي الذي أطلق به ومنه الثقافة العربية الإسلامية إلى الثقافة الأوروبية مثمراً في رفد تلك الثقافة بما كان يوسع نظرتها إلى الحياة دون أن يدفعها ذلك التدافع الثقافي إلى ظلم الآخر، أو إلحاق الأذى والضرر به، أو قسره على المثاقفة بالقوة المادية، والإكراه، إيماناً بمنهج التبليغ والتثقيف وإعطاء الآخر فرصة الاختيار لما يحتاجه من مادة الثقافة العربية {لا إكراه في الدين} {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}. فإذا كان كلام الله سبحانه وتعالى يتم تبليغه بالاختيار وحماية الإنسان المشرك بمنزّل الكتاب، المكذب بما جاء في الكتاب الكريم كما دل على ذلك توجيه القرآن في أكثر من موضع منه؛ فإن منهج المثاقفة في تصدير الثقافة العربية سيستمد مثاقفته للآخر من هذا المنهج الرباني الواضح. إن هذا المستند الشرعي لقيام الحضارة أية حضارة لم يكن غائباً عن راصدي حراك الحضارات وتدافعها، وقيمها الدينية، والدنيوية.. فقد ذهب المستشرق أوليري في كتابه: «مسالك الثقافة الإغريقية إلى العرب» إلى أن الحضارة أية حضارة تقوم على ركيزتين أساسيتين هما: التصورات الدينية، والعلوم التي تخدم الحياة وليس بين هاتين الركيزتين من تعارض أو ازدواج. ولعل الذي دفعه إلى ذلك التصور ما لحظه في أصول الحضارة الإسلامية من انسجام وتفاعل حي بين علوم الدين، وعلوم الدنيا في قيام هذه الحضارة، ومن ثبات المعطي الديني، ومتغير المعطي الدنيوي وأثر الديني في المتغيّر أثراً يفضي إلى توحّد الرؤية الكونية ذات الوحدة العضوية المقدرة بتقدير الله لها. وتجد غير شهادة من غير أهل الحضارة الإسلامية على أهمية قيم الحضارة الإسلامية الدينية والدنيوية في استقامة الحياة السوية فقد رأى المستشرق جب في كتابه (إلى أين يتجه الإسلام) أن الإسلام قادر على أن يقدم خدمة سامية للإنسانية من خلال قدرته على تأليف الأجناس البشرية المتنافرة من جهة واحدة أساسها المساواة. ولم يساور جورج برنارد شو، شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين وتتماسك أطرافها تماسكاً قوياً وتحمل في طياتها عقيدة مثل عقيدة الإسلام لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب، بل ستكون خطراً على إحداثه. وقد استيقظ الفكر الأوروبي على قدوم العلوم والفنون والآداب العربية في نظر زيغريد هونكه. وقال جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: (ولا نرى في التاريخ أمة ذات تأثير بارز كالعرب، فجميع الأمم التي كانت ذات صلة بالعرب اعتنقت حضارتهم ولو حيناً من الزمن). وستجد مثل هذه الشهادات عند غير مؤرخ من الغرب ومن الشرق. ومثل هذه الشهادات مؤشر واضح على مستوى الوعي المتطور بأهمية المثاقفة، والاعتراف بالتراكم المعرفي في إنتاجية المعرفة والاهتمام بمستوى القيم الثقافية المؤهلة لإحداث التواصل الاختياري الحر بين المتثاقفين، وتذليل المعوقات التي تحول دون تعارض الثقافات وتقاربها. وهذا بطبيعة الحال يرتكز على أهمية تحقيق الوعي العميق. والإدراك الجيد لأصول ومستجدات الحضارات المتثقافة. بعيداً عن صور التعصب الذي يولد مواقف الكراهية، والعداء، والصراع بين ثقافات الأمم. وقد توهم صامويل هينتنقتون حين ذهب إلى أن الصراع ظاهرة حضارية مشتركة بين الحضارات والأمم. وقد تناول في مقالاته حول صراع الحضارات هذا التصور المدمر لتثاقف الحضارات وتآخيها الإنساني من واقع آليات البرنامج السياسي الغربي القائم على تأجيج الصراع الحضاري ولو من جانب واحد. فالصراع ليس مثاقفة إنه وجه جديد يطل به الاستعمار الجديد، وملامح هذا الوجه ليست غريبة عن ملامح أشكال الوجوه الاستعمارية المتكررة من الأقوياء على الضعفاء في كل زمان؛ لإنعدام الوازع الرادع لظلم الإنسان للإنسان. وصامويل وغيره من كتاب الغرب ممن ينظر إلى الصراع بوصفه قيمة حضارية يكشفون لك بجلاء ووضوح لا يحتمل اللبس أن الصراع بنية، من بنيات العقلية الغربية عند الأمريكان بشكل خاص، وعند الأوروبيين بشكل عام هذا المرض الذي يشبه في بعض نوباته مرض جنون البقر تجده عند القياديين غير المثقفين، وعند العقلية العسكرية. انظر مثلاً إلى صراع الحروب الصليبية في الشرق العربي منذ أول حملة فيها إلى مايواجهه الشعب العربي من هذه المرحلة، وهذا التهديد المستمر ليل نهار بتأديب العالم الإسلامي، وتشكيله تشكيلاً ثقافياً جديداً. وللوجه الدنيوي في حضارة الغرب الأمريكي أثره الأساسي في التأثير على قادة المثاقفة، وتوجيه مسالكها توجيهاً مغايراً لمسالك التثاقف الحرة. ولعل تفوق الغرب في نوعية وكمية الإنتاجية المادية قد أغرى هذه الحضارة إلى محاولاتها المستمرة في فرض المثاقفة من جانبها فرضاً قسرياً. ولكن الإشكالية التي يواجهها هذا التثاقف القسري من جانب حضارة الغرب هي إشكالية البعد الروحي في الثقافة العربية الذي يمثل التحدي الأكبر فيما يتعلق باختراقه من الداخل وتفريغ الروح العربية من فعله في طبع الثقافة العربية بطابعه الإيماني. فهذا الجانب الروحي في الثقافة العربية ليس متغيراً اجتماعياً كما هو الحال في الأيديولوجية الغربية المتحركة غير الثابتة هذا من جهة، ومن جهة أخرى تجد أن الوقار والشرف الكامنة معطياته في أصول الثقافة العربية اليقينية حفظ لهذه الثقافة قيم التوازن والانضباط الواعي في تثاقفها مع الآخر. إذ لم تنظر الثقافة العربية وأصولها إلهية حق لها أن تفتخر بانتمائها إليها إلى ثقافات الكون وحضاراته نظرة استعلاء، أو انتقاص لقيم تلك الثقافات. ولم تصادرها، أو تفرض عليها تصوراتها لأنك عندما تستبدل بمنهج المثاقفة التبليغي منهجاً استعلائياً تنتقص فيه الثقافات التي تريد التثاقف معها؛ فإنك والحالة هذه سيؤول منهجك هذا إلى شيء من الاضطراب يفقد معه صفات التوازن التبليغي، وهذا يجرك إلى أن تستبدل بالعدل ظلماً، وبالخير شراً، وبالجمال قبحاً. انظر إلى ما صاحب المشروع النهضوي العربي من اخفاقات في اضطراب الرؤية الحضارية التي أخذت تجرب مجموعة من الأنهاج لإقامة هذا المشروع الذي لم يقم منذ ما يقرب من قرنين من الزمان. ولعلك تمعن النظر بدقة إلى ما صاحب ما سموه (الصحوة الإسلامية) وهي من متعلقات هذا المشروع من إخفاقات في محاولتها الوصول إلى تأصيل الوجه الحقيقي للحضارة الإسلامية، فاهتمت الصحوة بترميم الملامح السطحية، دون المساس بالجوهر وعياً به وهضماً له، ومن ثم تقديمه في صورة صحيحة. ويبدو لي أن عجز الصحوة الإسلامية عن الوصول إلى نتائج إيجابية كان مرده عدم أهلية القائمين على تمرير الصحوة الإسلامية بوصفها آلية من الآليات الأساسية في مشروع النهضة. والشيء الآخر هو استعلاء النظرة إلى كل من لم ينضم إلى هذه الدعوة، وتصدير هذه النظرة الاستعلائية إلى غير المسلمين، وإلحاق الضرر بمن عارضها في الخارج وبمن حاول إصلاحها من الداخل، ولو سلكت الصحوة مسلك التوازن الواعي بحركة التاريخ، وبحراك القيم الحضارية المشتركة بين الثقافات لكانت رافداً فاعلاً من روافد استنهاض مكامن القوة في الثقافة العربية. إن أبرز معوق للمثاقفة مصادرة ثقافة ثقافة أخرى أو قيام المثاقفة على الصراع المفضي إلى الغلبة كما تفعله الثقافة الأمريكية الآن. لقد أخذنا عن الحضارة الغربية في هذه المرحلة التاريخية باختيارنا منتجات العلوم، وبعض طرائق المعاش، والعمران، وكثيراً من كماليات الحياة المدنية، ومازالت الحاجة قائمة إلى هذه المشتركات الدنيوية. فهل مقدور الثقافة العربية أن تقدم نفسها في صورتها الروحية تبليغاً وتثقيفاً لتتسع رؤيتا الثقافتين العربية الإسلامية والغربية اتساعاً حضارياً على هذين البعدين المادي الغربي والروحي الإسلامي. أزعم أنه إن تم ذلك، فإن أثره في التحاور، والجدال بالحسنى، وتقارب الحضارتين سيكون حاضراً إذا تم ذلك عن طريق الاختيار بين الحضارتين المستند إلى قيام الحاجات، وهضم المختارات، والاضافة إليها، وطبعها بالطابع الحضاري الإسلامي، أو الغربي دون إكراه من هنا وهناك.