غسان حامد عمر أسرّ إلي أحد الأطباء أن من هم في جيلي من الشباب بدأت تنتشر بينهم ظاهرة حبوب الاكتئاب، وأنها أمست أمراً لا مناص منه لكثيرين منهم لإكمال معترك الحياة. الأمر الذي لا يعرفه كثيرون أن مرض العصر الأول ليس السكّر ولا البدانة أو القلب.. إنه الاكتئاب، بل إن الاكتئاب ومداخله هو المدخل لكل هذه الأمراض وغيرها. يقول «ديل كارنيجي»: «عشت في نيويورك أكثر من سبعة وثلاثين عاماً، فلم يحدث أن طرق أحد بابي ليحذرني من مرض يُدعى (القلق)، هذا المرض الذي سبب في السنين السبع والثلاثين الماضية من الخسائر ما سببه الجدري بعشرة آلاف ضعف.. نعم لم يطرق أحد بابي ليحذرني من أن شخصاً من كل عشرة أشخاص من سكان أمريكا معرض للإصابة بانهيار عصبي، مرجعه في أغلب الأحيان إلى القلق». انتهى. قبل عدة عقود كان الإنسان يصاب بالأمراض مع كبره الطبيعي في السن، فتبدأ حينها ساعة المرض تدق، والآن بازدياد معدلات القلق كما تقول المنشآت الطبية المحترمة: Clock starts ticking early! والسبب الرئيس لهذه الظاهرة الخطيرة هو هذا السباق الرهيب لجمع أكبر قدر من المال في أقصر وقتٍ ممكن، «وقواهم البدنية والنفسية تدور كالآلة الدائبة وراء هذه الغاية» كما يقول الإمام الغزالي. لن يتسع مقالي هذا للحديث عن الحراك الاجتماعي الرهيب الذي لاح في الأفق منذ سنوات، لعلي أتحدث عنه لاحقاً. في الحديث الشريف: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش»، وأيضاً: «مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ، جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يُؤْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ»، قبل عقدين لم تتمكن حياة الرأسمالية من المجتمعات كما تمكنت اليوم، وكانت الأسر أكثر ترابطاً وتواصلاً، ولكن الشركات والمؤسسات اليوم تضغط من أجل النمو وتحقيق «مزيد من النمو» ولو كان على حساب الأسرة وروابط المجتمع وصحة الإنسان الذي يدور كالآلة وراء هذه الغاية، لا بأس فقائمة الانتظار خلفه طويلة وسرعان ما يستبدل إن عطب. جاءت هذه العجلة المادية على أخضر الحياة وعشب جمالها، وأصبح كثيرون يملكون المال ولا يجدون الوقت ليستمتعوا بما جمعوا. دخلتُ معترك الحياة بقوة منذ سنوات كغيري من الشباب، ولقد قمت بعد فترة بزيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة وإذ بي وأن طائفٌ بالبيت وجدتني ساهياً غير حاضر الذهن، فدار بخلدي كم أنني أصبحت قليل الذكر ولم أعد كما كنت منذ عقد. وذات مرة كنت في إحدى الدول فاستيقظت متأخراً ولُمت نفسي لأن إفطار الفندق قد فاتني ولم أحزن لأول وهلة على ضياع صلاة الفجر، فأدركت أن الدنيا دخلت قلبي وملأت جوارحي وأغشت بصيرتي وتربعت واستقرت! ليس المقصود بما أقول الركون للراحة وإبطال أعمال الحياة، بل بالعكس فإنما خُلقنا لنعمر الأرض ونكسب الرزق، ولكن لا أن نميل عن الرشاد ونزيغ عن الطريق القويم. والفرق بهذه الشعرة، هو أن تجعل المال في يدك لا قلبك، فلا تحزن إذا نقص منه شيء، ولا تفرح كلما جاءك، فتكون كمن يعبد الله على حرف. إن أصابه خيرٌ اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه. خسر الدنيا والآخرة!