في تاريخ الثقافة الإسلامية ارتبط العلم بالكفاف، فالعالم يعيش فقيرًا، ويموت كبيرًا؛ لأنه يملك كل كنوز الدنيا بين جنبيه. العلم يعلّمه أن مَن يتقِ الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، فلا يشتغل بمستقبل الأولاد، وتحسين الأوضاع، وبناء شبكة العلاقات. العلم يرسّخ في النفس أن الإنسان يأكل ليعيش، وليس يعيش ليأكل، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. بهجة المعرفة تملأ جوانح الإنسان، وتشعره بالاكتفاء، وحسبك من غنى شبع وري. العلم يعلّمه أن الأرزاق بيد الواحد القهار، وأن الاشتغال بالحياة اشتغال بغير المقصود، وإعراض عن المقصود، ومَن كانت الدنيا أكبر همّه فرّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه. فلا يتضعضع فقير لغني؛ لأن مَن تضعضع لغني فَقَدَ ثلثي دينه. لكننا اليوم نجد العلم صار سلّمًا للمال، وبابًا للتكسّب، والتسوّل في كثير من الأحيان، لهذا فَقَدَ كثير من العلماء اليوم قدرتهم على التأثير، وفرّطوا في أعظم الكنوز وهي العفة والمصداقية. إنك تجلس في كثير من مجالس العلم فتُصاب بالغثيان من اشتغال هؤلاء النخب بسوق الأسهم، وتقلبات العقار، وجنون الذهب، وتدرك أن الأمة ابتليت في كثير من مثقفيها وعلمائها الذين سقطوا في الامتحان. سعيد الحلبي مد رجله، ولم يمد يده؛ لأنه يعلم أن الوهاب هو الله، وأن المعرفة أبقى من الدراهم، ومات سعيد الحلبي وهو يشعر أنه من أغنى الناس؛ لأن عِلْمَهُ عَلَّمَهُ أن الغنى غنى النفس، وكم من رجل عاش فقيرًا وهو يملك الملايين، ورجل عاش غنيًّا وهو لا يملك قوت يومه. ذاك رجل جعل المال في قلبه، وهذا جعله في يده.. وشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد تميم والأغرّ بن حاتم فهمّ الفتى التيميّ إتلاف ماله وهمّ الفتى القيسيّ جمع الدراهم لكن سعيد الحلبي اليوم مشغول بالعقارات، والاكتتابات، في الصباح تجده في حملة علاقات محمومة، وفي المساء بين مكاتب العقارات والاستراحات، فتعس عبد الدرهم، وتعس عبد الدينار، وتعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. سعيد الحلبي اليوم كل يوم له لغة، وكل ساعة له خطاب، وكل دقيقة له موقف، وأصبح مثقفو الأمة اليوم في تقلباتهم أسرع من إعصار تايفون. فتشوا عن سعيد الحلبي لتكتشفوا الأمة كيف كانت، وماذا أصبحت؟ لقد أصبح أكبر مشكلات الأمة في كثير من مثقفيها الذين يشبهون بندول الساعة، لا وجود لهم إلاَّ مع الاضطراب. المال له سطوة تزلزل القلوب، وتخلط الأوراق، وقليل من الناس مَن ينجح في الامتحان، فهو يسفر عن أخلاق الرجال. وكم علمنا المنتصرون على هذه السطوة من الدروس العظيمة. مر عبد الله بن جعفر على عبد كان يعمل في بستان، ومعه ثلاثة أقراص من الخبز، كانت ثمن عمله في يومه، وبجواره كلب يلهث، فدفع له تلك الأقراص الثلاثة، وعندما سأله عبدالله: ماذا ستصنع؟ قال له: سأنام حتى يوم الغد، ورزقي على العليم الرزاق. فاشترى له عبدالله البستان وما فيه، وأهداه له. لقد علم العبد الأجير عبدالله درسًا عظيمًا، ولكن عبدالله كان أكرم من ذلك الأجير. إن الكلمات لكي تبقى مضيئة بحاجة إلى قوة توليد من نفس عظيمة.