شكل الفن المعماري منذ الأزل مؤشراً فعلياً على حضارة الشعوب والأمم، فهو المرآة التي عكست تاريخ تلك الحضارات، وما امتلكته من مقومات أسهمت في حياة إنسان ذلك الزمان. وتعد منطقة الباحة واحدة من المناطق والمدن العديدة التي تكتنز إرثاً كبيراً في فن العمارة القديمة، الذي يبرز في قراها المتناثرة في أنحاء المنطقة، حيث روعي في تصميم مبانيها السكنية وقلاعها وحصونها أن تتواءم مع الظروف البيئية كالتضاريس والمناخ، وأن تتلاءم مع الظروف الاجتماعية كالعادات والتقاليد العربية القديمة. ولعل أبرز ما يميز تلك العمارة القديمة هو اعتمادها على الطبيعة دونما سواها، حيث يُبنى البيت من الأحجار والأشجار التي يتم جلبها من مختلف أنحاء المنطقة، وعادة ما تكون من صخور الجرانيت والبازلت التي تزين بأحجار المرو، فيما يسقف البيت بأشجار العرعر التي يتم تغطيتها بالطين. ويمر الفن المعماري في البناء بالمنطقة قديماً بعدة مراحل، حيث يتم بداية عمل قاعدة البيت، في حفر “ربض” في الأرض بعمق متر إلى متر ونصف وعرض متر واحد تقريباً، ومن ثم يتم ردمه بالحجارة التي تم تفتيتها سابقاً حتى تتساوى مع سطح الأرض لتشكل قاعدة قوية للبناء الذي يبدأ بشكل منتظم، حيث يتم وضع الأحجار فوق بعضها البعض دون استعمال مادة إنشائية تربط ما بينها ما عدا الحجارة الصغيرة والطين اللزج والتراب، وعند الوصول للأبواب والنوافذ يتم وضع ” الجباهة ” وهي صخرة كبيرة توضع فوق الأبواب والنوافذ ويتم بعدها إكمال المبنى. وفي المرحلة الثانية للبيت يتم وضع “الزفر” التي تمثل الأعمدة الداخلية للمنزل، وهي تؤخذ من أشجار العرعر الضخمة، حيث يتم تقطيعها على شكل أعمدة ثم توضع عليها “الفلكة”، وهي قطعة خشبية مقوسة تثبّت عليها، وبعد رفعها بفرش قاعدةٍ لها من الحجارة الصلبة يتم وضع “الجوز”، التي تمتد من الجدار الخارجي للمنزل إلى “الزافر” في الداخل. وتأتي بعد ذلك مرحلة تسقيف المنزل، حيث يتم وضع أخشاب أشجار العرعر، وهو ما يعرف ب”البطن” لتغطي السقف كاملاً، ثم يتم جمع كمية من نبات العرفج ونبات “المض” المعروف بالجريد، ويتم خلطها بالماء والتراب، وهو ما يعرف بطينة البيت “صبة السقف” التي يتم وضعها على سقف المنزل دون أن يترك أي فراغ فيه. وبعد أن تجف طينة البيت يتم عمل “القترة”، وهي فتحة تهوية للمنزل تسمح بخروج الدخان منه أثناء الطبخن ثم يتم عمل “الميزاب”، أو السرب الذي يتم من خلاله تصريف مياه الأمطار من سطح المنزل ويتم بعدها رصّ الحجارة على محيط السطح حتى لا تنجرف التربة بفعل الأمطار، وعادة ما يوضع في زوايا السطح والنوافذ والأبواب من حجارة المرو التي تزين الشكل الخارجي للبيت، ثم يتم وضع الأبواب وهي ما يعرف ب”المصراع”، ويتم كذلك وضع النوافذ “البداية”، وجميعها مصنّعة من الأخشاب التي يتم تزيينها بالنقوش الهندسية الجميلة المحفورة بدقة، فضلاً عن الرسومات التي اختيرت بعناية فائقة. وبعد أن تنتهي مرحلة بناء البيت تأتي مرحلة “الخلبة”، أو ما يعرف اليوم بالتلييس، حيث يتم جمع الطين وخلطه بالعلف حتى يصبح أكثر تماسكاً، ثم تغطى به جميع جدران المنزل من الداخل، وبعد أن يجف يتم استخدام الرخام الأبيض مع النيلة لتزيين جدران المنزل وإكسابها لوناً أبيضاً ناصعاً. ولقد أعطى الاختلاف الكبير في المناخ والتضاريس بين سراة المنطقة، وتهامتها، تميزاً واختلافاً في الأنماط المعمارية للمساكن، وفي مواد البناء المستخدمة وطرق الإنشاء المتبعة، حيث روعي في تصميم المباني السكنية بالمنطقة أن تتواءم وتتلاءم مع الظروف البيئية، وكذا الاجتماعية. ولقي الفن المعماري القديم بالمنطقة اهتماماً كبيراً من صاحب السمو الملكي، الأمير مشاري بن سعود بن عبدالعزيز، أمير منطقة الباحة، حيث شهد سموه مؤخراً مراسم توقيع عقد تصميم مشروع القرية التراثية في المنطقة بتكلفة إنشائية بلغت 35 مليون ريال. وتتضمن تلك القرية التي تقع على مساحة تزيد على مائة ألف متر مربع، على مسرح شعبي يتسع لأكثر من خمسة آلاف شخص، ومسجد يتسع لخمسمائة مصلٍّ، وكبائن فندقية ووحدات سكنية ومعرض تسوق ومحلات تجارية ومطاعم وصالة عرض تراثية ومتحف وساحات عامة، وغيرها من الخدمات الأخرى التي روعي في تصميم مبانيها الخصوصية والروح المعمارية والرمزية للموروث الشعبي والثقافي لسراة وتهامة وبادية منطقة الباحة. كما لقي الفن المعماري القديم اهتماماً من أهالي المنطقة الذين عمدوا في السنوات الأخيرة لتزيين منازلهم واستراحاتهم بالأحجار المنحوتة والأشجار والنقوش، وغيرها من الفنون المعمارية المواكبة للذوق الفني القديم المرتبط بحضارة وتاريخ المنطقة. الباحة | واس