يسعى الآباءُ والمربُّون لغرس المبادئ والقيم والتوجُّهات في نفوس من يتوجَّهون لتربيتهم مباشرة أو من خلال التعليم ومناهجه؛ أملاً بأن يتحلَّى أولئك بالأخلاق الحميدة وبالصفات الفاضلة، ويشاركهم كتَّابٌ ودعاةٌ ووعَّاظٌ بنشر تلك المبادئ والقيم والصفات والأخلاق بين قرَّائهم ومستمعيهم، وفي ذلك يستحضر أولئك القدوةَ ليكونَ لما يسعون إليه الرمزَ والمثالَ فيرسمونه صورةً في الأذهان سواءٌ أكان القدوةُ معاصراً أم كان راحلاً؛ لذلك يفترض أولئك في مجال القدوة أنَّ هناك مَنْ يكاد أن ينعقد الإجماعُ على صلاحهم وهداهم وعدالتهم ونزاهتهم وحبِّهم الخير، أو يُجْمَعَ على تعقُّلهم وحكمتهم وعلو باعهم مهارةً وقدرةً في فهم النفس البشريَّة وفي معرفة خباياها وجوانب الخير فيها متقنين دوافع حفزها ووسائل استثارة خيريَّتها وأساليب إبعادها عن الشرور، أو من يكاد يُجْمَعَ على قدراتهم ومهاراتهم في استقراء أوضاع مجتمعاتهم وفهم مشكلاتها الاجتماعيَّة ومعرفة وسائل معالجاتها وأساليب توجيهها نحو الخير. هذا يعني أنَّ الوعاظ والدعاة وخطباء الجوامع والقضاة وكتاب العدل ورجال الحسبة والتربوِيِّين والمتخصِّصين في علم النفس وفي علم الاجتماع أقرب الناس إلى اعتبارهم قدوات في تربية الناشئة ولتوجيه النَّاس وفق الصورة الذهنيَّة عنهم في مجتمعاتهم، ولذلك حين يقع من أولئك من الأخطاء والهفوات والانحرافات ما لا يتناسب مع الصورة المرسومة في الذهن عنهم سيستاء مجتمعُهم وسيُصدم بصدمات أخلاقيَّة بما يقع منهم كأفرادٍ يفترض فيهم أن يكونوا القدوة في الخير والصلاح والهدى والتوجيه لغيرهم، وسينظر المجتمع إلى أولئك من خلال جرائمهم وأخطائهم وانحرافاتهم بنظرات إحباط وازدراء واحتقار، وهنا سأطرح تساؤلات المجتمع في قضايا تناولتها وسائل الإعلام خلال السنة الماضية فقط، تساؤلات استنكار باعتبارها أولى خطوات البحث عن الخلل الذي أصاب هذا المجتمع الذي طالما قيل بأنَّ له خصوصيَّاته التي تحصِّنه. – أليس الأب والأم ينبوعا حبٍّ وحنان لأولادهم؟ يخافان عليهم حتَّى من الريح كما قال عمران بن حطَّان: أَبْكَانِي الدَّهْرُ وَيَا رُبَّمَا أَضْحَكَنِي يَوماً بِمَا يُرْضِي لولا بُنَيَّات كَزُغْبِ القَطَا حَطَطْنَ مِنْ بَعْضٍ إِلَى بَعْضِ لكَانَ لَي مُضْطَرَبٌ وَاِسِعٌ في الأَرْضِ ذَاتِ الطُّولِ وَالعَرْضِ وَإِنَّمَا أَولادُنَا بَيْنَنَا أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الأَرْضِ لَو هَبَّتْ الرِّيْحُ عَلَى بَعْضِهِمْ لامْتَنَعَتْ عَيْنِي مِنْ الغَمْضِ لذلك يكاد لا يُصدِّق المجتمعُ أنَّ فيه أبا كأبي لمى يعذِّب ابنته ذات السنوات الخمس تعذيباً ينتهي بقتلها؛ مدَّعياً بانحرافها أخلاقيّاً، فكيف به وهو كما وُصِف في وسائل الإعلام بالداعية؟! – هل يتصوَّر مجتمعنا أنَّ كتَّاب عدل يرتشون ويتعدَّون على الأراضي الحكوميَّة ويزوِّرون في الصكوك الشرعيَّة ويستولون على المال العام والخاص؟ وربَّما معظم أولئك أئمة مساجد وخطباء جوامع، بل وهل يتوقَّع هذا المجتمع أنَّ داعيةً يكتب عن المبادئ والقيم والأخلاق السامية وعن الأمانة العلميَّة والموضوعيَّة تثبتُ عليه سرقاتٌ أدبيَّة بحكمٍ قضائي؟! بل وكيف يتقبَّل المجتمعُ نفسه أنَّ عضو هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد جمع في ذمَّته بين خمس زوجات؟! أو أن يستخدم إمام مسجد مسكن الإمام استخداماً غير شرعيٍّ أو غير نظاميٍّ. – بل كيف يتجرَّأ عسكريٌّ برتبة نقيب أن يفحِّط في شوارع محافظة عنيزة؟ وكيف يصل الأمر بمدرسة ثانويَّة أن تستضيف مفحِّط ليتحدَّث عن تجربته وليطبِّق مهاراته التفحيطيَّة عمليّاً أمام طلاَّبها وفي فنائها؛ ليحذِّرهم من أخطار التفحيط. – أستاذ بدرجة بروفيسور في علم النفس، وآخر بالدرجة نفسها في علم الاجتماع يتحدَّثان دائماً عن الأسرة وعن تربية الأبناء ويطرحان مثاليَّاتهما وتنظيراتهما في القنوات الفضائيَّة، في حين عُرفا في مجتمعيهما بأنَّهما مطلِّقان ومهملان لأبنائهما من طليقتيهما، فهيهات أن ينسى المتابعون مداخلة طليقة أحدهما مشيرة إلى ما لقيته منه من عنت وعنف أسري قبل الطلاق وبعده، فهل يظنَّان أنَّ ذلك يخفى عن المجتمع السامع لهما؟ جرائم وأخطاء ومغالطات ليس المستغرب أن تحدث في مجتمعنا فهو كغيره من المجتمعات قد يقع فيه مثل ذلك، لكن المستغرب أن تقع تلك من أولئك، ويزداد الاستغراب حين يتصدَّى كتَّابٌ للدفاع عن شرائحهم مشيرين إلى أنَّ ليس كل الدعاة أو الوعاظ على شاكلة ذلك الداعية، ولا كتَّاب العدل ككاتب العدل هذا، ولا أئمة المساجد كذاك الإمام، ولا رجال الحسبة كرجل الحسبة ذاك، فليعلم أولئك الكتَّاب المستنكرون امتعاض غيرهم من أولئك الذين لم يكن المجتمع يتوقَّع حدوث ما حدث منهم؛ لذلك فإنَّه ينبغي أن يكون الاستنكار والعقوبة على من يخطئ من حيث ينتظر منه الإصلاح أكبر من غيره، أليس قتل الغيلة أشدُّ أنواع القتل؟ لذلك حين تقع الجريمة أو يأتي الخطأ ممَّن هو محلُّ الأمن والحنان، أو محلُّ الثقة والنزاهة والعدل، أو محلُّ تقدير المجتمع علميّاً وفكريّاً له فينبغي تغليظ العقوبة عليهم أو تعظيم الازدراء بهم والاحتقار لهم. ولعلَّه من المدهش حينما يدافع مختصُّون بعلم النفس عن شرائح أولئك في مجتمعاتهم؛ فذلك يعني تخفيفاً لجرائم أولئك أو أخطائهم وانحرافاتهم، ففي صحيفة الشرق عددها 362 وردت إشارة لدراسة كشف فيها استشاري الطب النفسي الجنائي في جامعة كولومبيا الأمريكية الدكتور ستيفن سميرنج أنه لا توجد علاقة قوية بين المرض النفسي وارتكاب الجريمة، مبيناً أن أكثر من 95% من المجرمين لا توجد لديهم أمراضٌ نفسية عدا بعض مستخدمي المخدرات، وأن 90% ممن لديهم أمراض نفسية لا يرتكبون جرائم، مشيراً إلى أن محاولة ربط أي جريمة بالمرض النفسي خطأ كبير، دراسة تعيها المجتمعات المتعلمة المتعاملة مع واقعها وطبيعتها بموضوعية، أما المجتمعات المتوهِّمة أنها ملائكية لا تتصور وقوع مثل هذه الجرائم من أفرادها، فهذا يقدح في ملائكيتها، وبالتالي لا مناص لها سوى البحث عن مشاجب تعلِّق عليها جرائمها، وليس هناك ما يناسبها للتخلص من جرائمها البشعة كمشجب المرض النفسيِّ.