ثمة أشياء يفتقدها ميدان التحرير هذه المرة.. الضحكة غير موجودة، استبدلها المصريون بقلق يرسو على الوجوه، وفزع من قادم مجهول لا يعرفون من أين سيأتي ولا متى! الداخلية التي أكدت أنها تقف على الحياد، وربما أوحت للمتظاهرين بأنها تتواطأ معهم، لم تستطِع منع خوف يتسرب إلى القلوب، وكآبة تنتشر في المكان أشد فتكاً من قنابل الغاز المسيلة للدموع. حتى اللافتات الساخرة من الرئيس مرسي ومرشد جماعته غير قادرة على استخراج ضحكات عالية تزيح الهموم عن أصحابها لبعض الوقت.. برامج «التوك شو» تبدو مكررة، تستضيف نفس الوجوه التي يعيد أصحابها نفس الكلام، والنوم يستقطب المشاهدين في دعوة صريحة للهروب من حالة السأم. فرصة الخروج من الأزمة تتضاءل، وكلا الفريقين يسعى لإذلال الآخر ونفيه من الوجود؛ الأحزاب السياسية تشكك في مصرية الإخوان المسلمين، وتتمنى إعادتهم لسجون مبارك، والتيارات الإسلامية تفرّغ القوى المدنية من إيمانها وتلصق بأصحابها تهم الكفر والردة عن الدين، وليس هناك عاقل يسأل نفسه: لمصلحة من كل هذا التناحر؟! هناك شيء ناقص في المشهد مثّل فريقاً ثالثاً أن الآوان ليظهر، ليعبر عن رأي جبهة عريضة من المواطنين لا تنتمي لأي طرف من أطراف الصراع، فريق يضم فقراء الوطن والمهمشين (وما أكثرهم) يعلن عن سأمه لكل ما يحدث، ويطالب بإنهاء هذا النزاع فوراً والعودة إلى مائدة واحدة يلتف حولها المصريون. أتحدث عن غضبة شعبية جارفة تجذب إليها المهتمين بمستقبل مصر ممن لا يسعون إلى تقسيمها، والتعامل معها على أنها مصلحة ليس أكثر! جبهة يقودها عقلاء غير مصابين بالبرجماتية، يحتشدون في ميدان واحد ويقدمون الدعوة للجميع للانضمام إليهم، يتفقون على طرح مبادرة من شأنها أن تحمي البلاد من التفتت وتقف عائقاً أمام حرب أهلية باتت وشيكة. جبهة تثبت كذب تيار إسلامي يزعم أن الشعب في صفه، وافتراء قوى مدنية تظن أنها المتحدث الرسمي لهذا الشعب. على المصريين أن ينهضوا من أمام شاشات التليفزيون ولا يتعاملوا كمتفرجين لما يحدث حولهم من أمور ستنال منهم عاجلاً أو آجلاً ولا يتركوا الساحة للاعبين قدامى فشلوا في مهمتهم سواء في السلطة أم في المعارضة. على كل من لا يعجبه ما يقوله أي من الفريقين أن يغادر موقعه على الكنبة ويتحرك، قبل أن يأتيه الطوفان من فوقه ومن تحته ومن أمامه ومن خلفه، ولن يستطيع وقتها القيام بأي حركة. مصر تضيع، وكل من يُسهم في هذا الضياع قبض الثمن وعليه الآن أن يعيد ما أخذ ويعاقَب على ما فعل. مصر ليست ميدان التحرير ولا ميدان النهضة، وثروتها الحقيقية ليست النيل ولا قناة السويس ولا حتى الآثار، إنما في شعبها الصابر وبركانه القادم وإتمام ثورته التي لم تكتمل ولابد أن تكتمل بنفس النيات الطيبة التي أطاحت بمبارك في 18 يوماً. آخر سطر: في روايته «بيتر كامينتسند» كان هرمن هيسّه يصرّ على أن يستخدم الراوي لفظة «وطني». كان يطلقها على قريته الصغيرة النائية كلما تذكرها لأي سبب!