لم تجفَّ دماء شهداء الثورة المصرية حتى كادت الانقسامات الأيديولوجية والسياسية تشطر البلد نصفين، بسبب الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي جرى قبل أيام، فمن دون مقدمات وجدنا أنفسنا أمام حالة استقطاب بين فريقين متصارعين يحاول كلاهما إغراء الشريحة العظمى من الجماهير (التي عادة ما عُرفت بالأغلبية الصامتة) وجذبها باتجاه خياره السياسي والأيديولوجي، وتحريضها من دون أدنى إحساس بالمسؤولية، وذلك من أجل التصويت بنعم أو بلا على هذه التعديلات. صحيح أن مشاعر البهجة قد طغت، ولا تزال، على الكثيرين بسبب الإقبال الجماهيري على الاستفتاء في بلد لم يعرف الاختيار الحر طيلة تاريخه الحديث، إلا أن ما حدث كان بمثابة جرس إنذار قوي كاد أن يودي بالثورة قبل أن تنجز مهمتها الأساسية بإقامة ديموقراطية راسخة تستوعب الجميع من دون أن تقصي أحداً. فعلى مدار أسبوعين متتاليين، دخلت تيارات وجماعات وأشخاص وفضائيات فى حالة من السجال الأيديولوجي والإعلامي غير المسؤول تحت يافطة الاختلاف السياسي. ولم يتورع أي منها، من دون استثناء، عن استخدام كافة الأساليب السلطوية، على غرار ما كان يفعل النظام السابق، من أجل حشد المواطنين للانحياز إلى خيار مقابل آخر، بيد أن الأخطر هذه المرة، أن التعبئة تمت على أساس ديني وهوياتي مذموم، وبدلاً من أن يتمحور الاختلاف والتدافع حول الطريقة الأفضل لإدارة المرحلة الانتقالية، وجدنا أنفسنا فجأة أمام خلاف (وليس مجرد اختلاف) حول هوية مصر وشكل نظامها السياسي في ما بعد المرحلة الانتقالية. ولوهلة بدا الخلاف شاملاً كافة أطياف المجتمع المصري وفئاته، في حين أنه في جوهره تمحور حول تيارين متقابلين، أولهما يرى أن مصر ما بعد مبارك يجب أن تكون دولة علمانية ليبرالية على نسق الديموقراطيات الأوروبية، وقع رموزه والمنافحون عنه في فخ المثالية السياسية من دون اعتبار ليس فقط لاختلاف السياقين الثقافي والقيمي، وإنما أيضا لاختلاف التجربة التاريخية في الحالين. واستُدرجت رموز سياسية وفكرية في فخ التحزّب الفكري والأيديولوجي من أجل فرض موقفها على الطرف الآخر، وهي التي تباهت دوماً بليبراليتها وانفتاحها على هذا الآخر. هذا التيار كان يقود معسكر الرافضين للتعديلات الدستورية واستندت حجته الأساسية الى خوف مبالغ فيه من اختطاف الثورة من قِبَل التيارات الدينية الأكثر تنظيماً، وهو أمر إن صحّ، فلا يواجَه بالتخويف والترهيب، وإنما بمحاولة موازنة الحضور المجتمعي لهذه التيارات. بيد أن بعض رموز هذا التيار قد مارس، سواء بقصد أو بغير قصد، قدراً من الوصاية السياسية على بقية أفراد المجتمع تتنافى مع روح الفكرة الليبرالية التي ينادي بها وجوهرها، وكان يكفي أن يشرح هؤلاء رؤيتهم للمجتمع بشكل أكثر انفتاحاً وتسامحاً وعقلانية من دون استحضار ما يرمون به معارضيهم من تعصب وإقصائية. والأنكى، أن بعض هؤلاء قد التحف عباءة الثقافة والفكر فى حين كان يمارس دوراً سياسياً بامتياز، مدفوعاً إما برغبة شخصية تحرّكها نزعة نفعية محضة، وإما برغبة فى كسب ود الجمهور وبناء شرعية جديدة في مرحلة ما بعد الثورة. ومن دون التقليل من وجاهة الطرح الذي استند إليه أنصار هذا التيار، إلا أن الاكتفاء بتوجيه النقد واللوم للطرف الآخر ومعاقبته على حضوره التنظيمي كان أمراً مبالغاً فيه، وكان الأولى أن يتجه هؤلاء إلى الشارع لإقناع المواطنين بطرحهم السياسي، وذلك بدلاً من الاكتفاء بالنضال الإعلامي والإلكتروني خلف شاشات التلفزة وفى المنتديات وعلى صفحات الانترنت و «الفايسبوك». لذا، اقتصر تأثير هؤلاء على الحضر والمدن، من دون الريف والقرى المصرية، على نحو ما عكست نتائج الاستفتاء. أما التيار الثاني، فهو تيار الوصاية الدينية، الذي يرى أن مصر ما بعد مبارك يجب أن تكون دولة دينية (بعضهم يحاول التحايل على هذه الكلمة ويستبدلها بكلمة إسلامية)، بحيث يصبح الدين مركزاً للسياسة وموجِّهاً لبوصلتها بدرجة أو بأخرى، تختلف بحسب المنتمين لهذا التيار. وهو تيار يشمل موزاييك من الحركات والتيارات الدينية، سواء المؤطَّرة تنظيمياً، ك «الإخوان المسلمين» وبقايا الجماعات الراديكالية، كالجماعة الإسلامية وجماعة «الجهاد»، أو تلك غير المنظمة، كالتيار السلفي الذي كان له حضور كبير خلال الأعوام الخمسة الماضية بفعل التأييد الذي لقيه من نظام مبارك، ويبدو أنه سيكون لاعباً مؤثراً خلال المرحلة المقبلة. وقد دافع أنصار هذا التيار عن خيار القبول بالتعديلات الدستورية باعتبارها سترسم الخطوط العامة لهيكل النظام السياسي الذي ستتخذه مصر مستقبلاً. وقد مارس أنصار هذا التيار كل أنواع التعبئة والحشد الأيديولوجي والديني والهوياتي، وأحياناً الطائفي، وكان مؤشراً على مدى تغلغل رأس المال الديني وقوته في صنع الخيارات السياسية لكثير من المصريين، فمن جهتها، قامت جماعة «الإخوان المسلمين» بحشد أنصارها ومؤيديها في كافة أرجاء القطر المصري، على نحو ما اعتادت فى كافة المناسبات الانتخابية، ولكن مع مزيد من حرية الحركة والتعبئة فى مرحلة ما بعد مبارك، وأمطر قادتها وسائل الإعلام بتصريحات ملتبسة تخلط ما بين مصلحة الجماعة ومصلحة المجتمع (لاحظ هنا منطق الوصاية) في حين أدارت معركة الاستفتاء كما لو كانت مسألة مصيرية بالنسبة اليها وإلى الوطن. وعلى يمين «الإخوان»، كان التيار السلفي يدافع عن الخيار الديني كما لو كان جهاداً ضد أعداء، واعتلت رموزه المنابر الدينية والإعلامية من أجل حشد الناس للتصويت بقبول التعديلات الدستورية. ومن المفارقات أن التيار السلفي، الذي تظاهر كثيراً بالابتعاد عن السياسة والزهد فيها، إما باعتبارها تنطوي على ممارسات غير أخلاقية، كالمساومات والصفقات والمطامع، أو كونها تتنافى مع مقاصد الدين، قد مارس دوراً سياسياً فاقعاً لا يختلف عما تقوم به القوى والأحزاب السياسية. وحتى لا نقع في مصيدة التعميم، فقد حدثت تقاطعات بين كلا التيارين، فبعض المحسوبين على التيار الديني اختاروا التصويت برفض التعديلات الدستورية، وبالعكس، صوّت بعض المحسوبين على التيار الليبرالي بقبولها، في حين جيّشت الكنيسة المصرية الكثير من المواطنين من أجل التصويت برفض التعديلات الدستورية، ليس تفضيلاً لمسار سياسي على آخر، وإنما خوفاً وتحسباً من هيمنة التيار الإسلامي على المجتمع على نحو ما تم الترويج له. هذا الاصطفاف الأيديولوجي والهوياتي يحمل ثلاث دلالات خطيرة لا يمكن أن تخطئها العين: أولها، أنها أكدت أن ما حدث في مصر خلال كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) الماضيين كان «نصف ثورة» ولم يكن ثورة كاملة، فقد تمت الإطاحة بالنظام السلطوي (أو على الأقل تفكيك بنيته وأركانه الأساسية)، في حين لا تزال العقلية السلطوية راسخة في المجتمع المصري، فممارسات كلا التيارين عكست ميراث عدم الثقة المتجذِّر بين الطرفين، وذلك حين استحضر كلاهما مفردات الخطاب السلطوي التمييزي ولغته، وهو الخطاب الذي غرسه النظام السابق في التربة السياسية المصرية. وكنا قد ظننا أن «روح» التوافق الوطني التي غمرت الجميع طيلة أيام الثورة المصرية وكانت ثمرتها الإطاحة بنظام مبارك، قد انتقلت من ميدان التحرير كي تستقر في الوعي الجمعي المصري، بيد أن ما شهدناه طيلة الأسبوعين الأخيرين نبَّه الجميع من غفلتهم، ولفت أنظارنا إلى ضرورة العمل على اقتلاع هذا الخطاب من جذوره قبل أن يطيح بثمار الثورة. ثانيها، بدا واضحاً أن المؤسسة العسكرية، وإن افتقدت إلى الخيال السياسي، إلا أنها على درجة من الذكاء والحنكة بحيث تركت المجال للقوى السياسية والمجتمعية كي تتدافع وتتصارع حول شكل النظام السياسي في مصر ومستقبله، وذلك على أمل أن يتم التوصل الى الحد الأدنى من التوافق الذي يمكِّنها من ترك السلطة لهيئة مدنية بدلاً من التدخل وفرض وصايتها على المجتمع، وهو أمر أعتقد أن الجميع لم يستفد منه أو يوظفه جيداً، وذلك على نحو ما دللت عليه حال الانقسام والاستقطاب التي ظهرت عشية الاستفتاء على التعديلات الدستورية. ثالثها، كشفت الأسابيع القليلة الماضية، أن حجم الفراغ الذي خلّفه سقوط النظام السابق مخيف ويفوق توقعات الكثيرين، وهو ما يعني أن أي قوة سياسية، مهما علا صوتها وادّعت حضوراً تنظيمياً قوياً، لن تستطيع ملأه بمفردها من دون مشاركة الآخرين. ملء هذا الفراغ السياسي لن يكون إلا من خلال التوصل إلى صيغة خلاّقة للتوافق الوطني المصري، تستوعب الجميع وتستلهم «روح» الثورة المصرية وتلتزم بأهدافها. وفي اعتقادي، أن ثلاث نقاط مركزية يجب أن تكون حاضرة فى خلفية أي مسعى لتحقيق هذا التوافق، أولها أن يتعاطى الجميع بمنطق «نحن» وليس «أنا» في ما يخص شكل النظام السياسي الذي يجب أن تكون عليه مصر مستقبلاً، فلا يحق لأي طرف أن يمارس وصايته على غيره من الأطراف، وذلك حتى لا يتم إنتاج أخطاء النظام القديم نفسها. النقطة الثانية، أن تدرك الأطراف كافة أن بناء نظام ديموقراطي قوي يحتم عليها تقديم تنازلات جوهرية، سواء في ما يخص خطابها السياسي والأيديولوجي، أو في ما يتعلق بحضورها وتمثيلها في النظام السياسي المقبل، وهو ما يجب أن يحدث، انطلاقاً من قاعدة التراضي وليس الاستئثار أو الاستقواء. والنقطة الثالثة، أن تدرك الأطراف جميعاً، أن الشعب الذي أسقط نظاماً سلطوياً عتيّاً في 18 يوماً، قادر على إسقاط أي قوة سياسية أو دينية تحاول فرض وصايتها على الآخرين. وأخيراً، فإن حساسية اللحظة الراهنة التي تمر بها مصر، تفرض على الجميع التحلّي بقدر من التجرّد والإحساس بالمسؤولية التاريخية إزاء مصير هذا الوطن ومستقبل أبنائه، ومن دون ذلك سوف تصبح الثورة المصرية مجرد حدث عابر لا يؤسس لدولة ديموقراطية راسخة تحتضن الجميع. * أكاديمي مصري، جامعة دورهام - بريطانيا. [email protected]