من شارك في أحداث شارع محمد محمود بالقاهرة في العام الماضي -ولو بالفرجة- يستطيع أن ينقل لك وجهة نظر مختلفة جذرياً مع كل خبراء الأمن والحكماء الاستراتيجيين الذين تعج بهم الصحف والقنوات الفضائية. ولو كلّف النظام الحالي في مصر نفسه عناء دراسة حالة محمد محمود في إطار سيكولوجي لأراح نفسه من عناء تكرار الحدث ومنع الصدام بين الثوار ووزارة الداخلية. لن أنسى منظر الأطفال وهم يتقدمون صفوف المواجهات، يحمل الواحد منهم على ظهره حقيبته المدرسية، يلتقط حجراً صغيراً يقذف به قوات الأمن، فترد عليه بالخرطوش وقنابل الغاز المسيلة للدموع، ليعود محمولاً على الأعناق ويغادر الشارع في سيارة إسعاف شهيداً أو مصاباً. مضاعفة أعداد الأطفال يوماً بعد آخر وشجاعة أجسادهم الصغيرة في اصطياد الرصاص لغز لم يسع أحد لفك شفرته ليدرك مقدار كراهية الشعب للشرطة. كراهية عبر عنها الأطفال بممارسة السباق للحصول على موت في اعتقادهم أنه مجرد رمز لهذه الكراهية. وزارة الداخلية (على وضعها الحالي) هي وجه مبارك القبيح الذي لم تخف ملامحه عمليات التجميل، ولن يصدق الثوار في مصر طيبته التي ظهر عليها بعد تخلي صاحبه عن السلطة. يتحمل مجلس طنطاوي الخطأ حين أعاد الضباط لممارسة عملهم -بعد الثورة- بدون إجراء تطهير شامل كان بإمكانه أن يخيف كل من تسول له نفسه استخدام سلطته لإرهاب المواطنين. ووقع مرسي في نفس الفخ حين أبقى ملف الداخلية على حاله ولم يقم بهيكلة للجهاز وتقديم كل من تورط في دم الثوار لمحاكمات ناجزة كان الرئيس قد وعد بها شعبه في حملته الانتخابية. عام مضى على أحداث محمد محمود لم يجد أهالي الشهداء من ينصفهم، ولم يعثر أصدقاؤهم من الثوار على قاتل واحد نال الجزاء. فذهبوا إلى نفس الشارع يبكون قلة حيلتهم ويكررون نفس المشاهد على أمل أن ينقذهم أحد من اليأس! كان إخفاء الأدلة بهدف براءة (كل) الضباط المتورطين في قتل المصريين أثناء الثورة هدف عمدت الداخلية على بلوغه ونجحت فيه باقتدار وهو الأمر الذي يجعل الواحد منهم مطمئناً تماماً وهو يصوب بندقيته ليقتل من يشاء في الوقت الذي يختاره دون أن يجد من يعاقبه بعد ذلك. الوضع لن يهدأ بالمسكنات، وعلى النظام إدراك أن الداخلية التي من المفترض أن تحميه أصبحت عبئاً عليه، وتحتاج لمن يحميها، وإذا كانت القوات المسلحة تقوم بهذه المهمة فإن أمن المصريين يحتاج لمن يسهر عليه. تفاقم الأمور ليس من مصلحة أحد واتهام طرف ثالث بالتحريض لم يعد مقبولاً، ومن يتواطئ مع القاتل ويدافع عن حريته فهو شريك في الجريمة، وإذا كان النظام الحالي بكل ما يمتلك من سلطان غير قادر على تحمل مسؤولية القصاص للشهداء فعلى الأقل بإمكانه ألا يتورط في تقديم شهداء جدد ويضع نفسه في دائرة الاتهام. آخر سطر: في بلادي ليل يظلم النهار، يقتطع من مساحته كل يوم مقداراً من الوقت، حتى صار يومنا كله ليلاً.