ظل إنسان العصور القديمة ينظر للطيور بكثير من الرهبة، واعتقد وهو الذي لا يرى أبعد من مد بصره وتحاصره الأخطار من كل مكان ويكاد يهلك دون قوت يومه، أن هذه الطيور بقدرتها على التحليق ورؤية كل شيء تحتها وسرعتها في التنقل من مكان لآخر أنها ذات قدرات روحية خارقة. فنسج حولها الأساطير والخرافات وجعل منها مصدراً للقوة والمعرفة وربما السحر والشر. وتسربت لكل قصص الشعوب تقريباً قصص البطولات التي تربط الملك أو البطل بقدرته على التواصل مع الطيور والأخذ بنصائحها. ولكن التراث العربي يكاد ينزع عن الطيور تلك الرهبة ويؤنسنها في أدبياته، بل ويجعلها رمزاً للحب ومعاناة الحبيب كما يقول أبو فراس الحمداني في قصيدته الشهيرة : أقول وقد ناحت بقربي حمامة // أيا جارة هل تشعرين بحالي؟ ثم يستمر في حواره الحزين معها الذي ينكر عليها البكاء وهي التي لا تعاني الأسر أو الحرمان فيقول لها أيضحك مأسور وتبكي طليقة؟/ ويسكت محزون ويندب سالٍ؟ وتراث مخاطبة الحبيب للطيور وتعلقه بها منحها انطباعاً رومانسياً طاغياً حتى اليوم، فالفتى المحب يهدي حبيبته عصفوراً ملوناً في قفص تعبيراً عن حبه، ولا شيء يهيج أحاسيس الحب لحظة لقاء العاشقين كزقزقة العصافير فوق الشجر وقت الغروب، التي تبدو كأنها معزوفة الطبيعة التي تبارك الحب ولحظة اللقاء. لكن هل العصافير والطيور بتلك الرقة التي نعتقد؟ إن الحوار الموثق الوحيد بين البشر والطير هو الحوار الذي نقله لنا القرآن الكريم بين نبي الله سليمان عليه السلام والهدهد، وإذا تأملت مفردات ذلك الحوار تجده حواراً أقرب إلى السجال يستخدم فيه الهدهد ذو الريش الذهبي والمنظر الخلاب عبارات بالغة القوة تكاد تفتقر إلى التهذيب في حضرة النبي الملك. فيقول له «أحطت بما لم تحط به»! ثم يسرد له قصة بلقيس وقومها ولا يهاب تهديد سليمان بالعذاب الشديد والذبح بل يتم مهمته وينقل الرسالة دون أن يبالي بخطر القنص!. ولعل قوة شخصية الهدهد وجرأته هي أحد الأسباب التي جعلت نبي الله سليمان يستشعر نعمة الله عليه عندما يقول «يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين». تخوض الطيور معركة قاسية مع الطبيعة، تهاجر كل عام لآلاف الأميال بحثاً عن الدفء والغذاء، تلتزم بنظام قاس في الترحال، تتبع قائدها وتحمي بعضها بعضاً فلا تطير منفردة حال هجرتها. تتنافس وتتصارع فيما بينها على الغذاء والإناث في وقت الحل، يستعرض الذكور مهاراتهم في النزال والصراخ، ولا بأس ببعض الدماء إن استلزم الأمر، لذلك لا تتعجب إن عرفت أن تلك المعزوفة الجميلة من التغريد التي كنت تهديها لحبيبتك وقت الغروب ليست إلا فصلاً طويلاً من السباب والردح تتبادله العصافير الملونة فيما بينها. وأن الحمائم الرقيقة التي ظل أبو فراس يحاورها دهراً كائنات صلبة مقاتلة لا وقت لديها للدموع والرومانسيات التي صدعها بها الشعراء!. لكن ما مناسبة هذا الحديث المسهب اليوم عن العصافير؟ في الحقيقة لم تعد خصائص العصافير حكراً عليها. لقد تم استنساخها ليمارس البشر ذات الصفات(السلبية مع الأسف) عبر اختراع حديث اسمه المغرد وينادونه استسهالا ب (تويتر). في تويتر تتعرف الطيور على بعضها منذ أول تغريدة، تتقارب ذات اللون الواحد حتى تتداخل فتشكل سديماً عظيماً له رأس واحد وذيول كثيرة، رأس ينطلق بها حيث شاء وتتبعه هي بلا نقاش. تمارس ذات الصراع الحاد والصاخب ولكنه يسمى هنا تغريداً. تجد تماماً كما في الطبيعة كل المغردين يتحزبون حول قائدهم في تجييش تام واستعداد للنزال مع الطيور ذات الأشكال الأخرى طوال الوقت. لم يحدث قط في تويتر أن تخلى مغرد ما، عن سربه لينضم إلى سرب آخر مهما طال سجال الإقناع. في تويتر تعلو أصوات التغريدات وتتداخل حتى تشكل ذلك المزيج الصاخب من السجال والشتائم بلا هدف ولا نتيجة لكن شخصاً ما، مصاباً بداء التفاؤل يراه معزوفة الديمقراطية! قد يشعرك تويتر بالحماسة والحفاوة لبعض الوقت، قد يحلق بك في نشوة الانطلاق والقدرة على التغيير لكن لا تنس أن أي تغيير حقيقي على الأرض أبعد كثيراً من أن تنجزه معزوفة عصافير تتبادل السباب!