أغلبنا يعرف حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي تم تأسيسه في (سوريا)، عام 1947م، تحت شعار (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، وبهدف إيجاد: وحدة اشتراكية حرة عربية، للتحرر من جميع مظاهر الاستعمار والإمبريالية. فكر تم تأسيسه على يد الناشِطين (ميشيل عفلق، وصلاح البيطار)، اللذان عادا من دراستهما في جامعة (السوربون)، بباريس إلى مدينتهما دمشق عام 1933م، ومن ثم بشرا بأفكار صحوتهما البعثية الشبابية الجديدة بين الأوساط الطلابية. وحقيقة أن أفكارهما في حينها وقعت كالسحر في نفوس الشباب المتعلم المكبوت المتحمس للعروبة، والراغب في التخلص من ضيم الاستعمار، وكان تأثيرها جلي أثناء مرحلة تخلص العراق من الاستعمار البريطاني بتكوين (حركة نصرة العراق). وبمرور الزمن تحولت الفكرة إلى حركة سياسية (حركة البعث العربي)، بداية الأربعينات، ثم إلى حزب سياسي، واكتمل سنة 1952م، بالاندماج مع الحزب العربي الاشتراكي، ليتحد الطرفان في حزب طموح بدأ مشاريعه بالمطالبة بالوحدة مع مصر. وفي عام 1966م نفذ عددا من ضباط الحزب انقلابا على الحزب والدولة، غادر على أثره (عفلق والبيطار)، سوريا نهائيا، أعقبه انقسام في الحزب، رغم أن عقيدته استمرت في جذب الشباب، وفي التنافس على كراسي السلطة. وقد انتشرت مبادئ البعث إلى نطاق أوسع لتصل عددا من الدول العربية، وتؤثر في مساراتها السياسية «بشكل كلي أو جزئي»، مثل العراق، ومصر، ولبنان، والأردن، وليبيا، والسودان، واليمن، وتونس، والجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية، حتى أنه تغلغل أيضا في بعض الدول الخليجية دون وصوله للمجالس النيابية. وقد بُني الحزب على قاعدة قومية عرقية عنصرية (عربية)، لا مكان فيها للتعاطف مع الأديان، ولا الفئات والأجناس غير العربية، فكان البعث ثقافة عربية علمانية قحة تفصل بين الدين والسياسة، وتم تصنيفه بفئة اليسار بمفهوم ثقافي حضاري. وكثر المؤمنون بهذا الحزب، وبضرورته، لتكوين جبهة داخلية عربية قومية تتحد في مناهضة كل مستورد يأتي من دول الاستعمار، مما جعل أتباعه يتجهون وبقوة لعوالم الدول الاشتراكية، وأن يكونوا عونا لها في مناهضة الإمبريالية. وقوميا فقد أعاد الحزب أتباعه إلى ما قبل الإسلام بتعزيز النعرة العربية، مهما بلغت سقطاتها، فيظل العربي الأول والأشرف والأهم، دون بقية البشر ممن لا يملكون لديه ما يشفع لهم بالحياة الحرة. وقد كانت تلك الغطرسة جلية في تصرفات معظم الحكام العرب، من أتباع البعث، ممن كانوا يُنكرون الواقع، ويُبدعون في قمع حريات الجاليات والأقليات، ويستحلون الدماء، ويعيثون في الأرض فسادا. والظلم لا يدوم، والقهر لا يستمر، وصوت العدالة يرتفع مهما زاد التجني، فأصيبت الدول البعثية باختلال داخلي، وعزلة خارجية، فعاندوا وتجبروا، ولم يراعوا تبدل الظروف، فتعادوا مع أغلبية دول العالم مما أضر بمصالح بلدانهم، وزاد عزلتهم، وخنق شعوبهم بوجود حكومات استخباراتية عسكرية تستوطنها هواجس المؤامرات، وشكوك الجاسوسية، وأحكام الطوارئ، وازدادت السلطة وهما، وتغطرسا، بينما كانت المؤشرات تشير إلى أنها إلى زوال، ولكن الصلف لازمهم، فاستمروا في تحقير الآخرين، ونفخ أنفسهم حتى وصلوا إلى درجة الانفجار. وهنا يسأل العاقل نفسه، لماذا لم يقم أرباب الحزب حينها بمحاولة التغيير، والتأقلم مع المستجدات، ومراجعة النفس، والتحوير وتطوير الذات برفع مستوى الحريات، والديمقراطية. والجواب أن أي تنازل للديمقراطية كان يُعد في نظرهم هزيمة مقذعة.وبمرور الوقت مُنيَ الحزب بنكسات متعددة، كان من أهمها تفكك الاتحاد السوفييتي، مما أصابهم في صميم قلب الاشتراكية. وكان السهم القاتل الآخر هو ما حصل لحكومة صدام، وكيف تحطمت على صخرة كان يفرضها الواقع. وفي عهدنا الحالي، أطلقت رصاصات عدة على هذا الحزب المنكوب بقياداته، بعد أن قامت عدة ثورات ربيعية عربية على الأنظمة، التي كانت تنتهجه، أو تتمسح بأفكاره، فرأينا كيف أن الربيع قد أطاح بجميع مناطق سيطرة هذا الحزب، حتى وصل لهب ثوراته لآخر معقل له، في عقر داره سوريا. وانظر ماذا يحدث من قلاقل ومحن، ومحاولات إرهابية لجر العراق إلى الخلف، والعودة بالفكر العربي للسجن البعثي، وبالطبع فسنتوقع أن تقوم مثل هذه الحركات الارتجاعية في أغلب دول الربيع، فمن لُحِسَ مخه بالبعث، لا يمكن أن يسلاه بسهولة. والأكثر إيلاما من ذلك أن البعض سيعيش طوال عمره يتباكى عليه، جنيناً خُلق مُشوها، وللأسف فقد مات دماغيا، وسيتفق الجميع معي بأن من الرحمة فصل الأجهزة عنه، ليودعنا للأبد.